نيل الأماني في توضيح مقدمة القسطلاني

الموضوع

          قوله: (وَالمَوْضُوع...) إلى آخره، مشتقٌ من الوضع وهو الحطُّ، سُمِي الحديثُ المذكور بذلك لانحطاط رتبته دائمًا بحيث لا ينجبر أصلًا، وإنَّما أوردوه في علم الحديث مع أنَّه ليس منه نظرًا إلى زعم واضعه، وهو شرُّ أنواع الضعيف لكونه كذبًا عليه صلعم، وقد ورد: «وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ من النَّارِ»، ويليهِ المتروك ثم المنكر ثم المُعلَّل ثم المُدرج ثم المَقلوب ثم المُضطرب كذا رتَّبَهُ شيخ الإسلام.
          وقال الزركشي: ما ضَعْفُهُ لا لعدمِ اتصاله سبعة أصناف شرُّهَا الموضوع، ثم المدرج، ثم المقلوب، ثم المنكر، ثم الشاذ، ثم المعلل، ثم المضطرب، قال الجلال: وهذا ترتيبٌ حسن، وينبغي جعل المتروك قبل المدرج، وأن يقال فيما ضعفه لعدم اتصال سنده: شرُّهُ المُعضل، ثم المُنقطع، ثم المدلَّس، ثم المرسل، أقول: وقد ضبطتُ ذلك على ما استحسنه الجلال مع جعل المتروك كما قال، فقلت:
شرُ الأحاديثِ ممَّا جاءَ متصلًا                     وضعٌ فتركٌ فإدراجٌ فما قُلِبَا
نُكْرٌ شُذوذٌ فمعلولٌ فمضطربٌ                     وغيرُ ذلكَ مَا للعضلِ قدْ نُسبا
كذاكَ منقطعٌ ثمَّ المدلَّسُ فالذِي                     أتى مُرسلًا فاحفظْ تَحز رتَبَا
          قوله: (هُوَ الكَذِبُ)؛ أي: المكذوب _مصدر بمعنى اسم المفعول_ وقوله: (على رسول الله صلعم)؛ أي: من قول أو فعل أو تقرير أو نحو ذلك، وقضية التقييد برسول الله صلعم أنَّ المكذوبَ على الصَّحابي والتابعي لا يُسمى موضوعًا.
          قوله: (وَيُسَمَّى المُخْتَلَقُ) بفتح اللام بعدها قاف؛ أي: المبتكر الذي ابتكرهُ الواضع من قِبَلِ نَفْسِهِ وليس له نسبةٌ بالنبي صلعم.
          وقوله: (المَصْنُوْعُ)؛ أي: الذي صنعه قائله، وفي نُسخ: (الموضوع) وحينئذٍ فيكون الموضوع في
          الأول بالمعنى الاصطلاحي، وفي الثاني بالمعنى اللغوي أو العكس (وتحرمُ روايته)؛ أي: على مَن عَلِم أو ظنَّ أنَّه موضوع، سواء كان في الأحكام أو في غيرها، كالمواعظ والقصص والترغيب إلَّا مع بيانِ وضعه، لقوله صلعم: «مَنْ حَدَّثَ عَنِّي بحديثٍ يَرَى أَنَّهُ كَذِبٌ فَهُوَ أَحَدُ الْكَاذبَينَ» رواه مسلم، ومعنى (يرى أنَّه كذب): يعلم ذلك، بمعنى أنَّه عامدٌ ليس بناسٍ ولا بغالطٍ، فهو بمعنى: «وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا»، فقيَّدَ صلعم بذلكَ ليُفيد أنَّه لا إثمَ على الناسي والغالط، فتُحمل الروايات المطلقة على هذا، و(الكذَّابين) قال شيخ الإسلام: بالتثنية والجمع، فعلى التثنية: الكذابان واضعه وناقله، وعلى الجمع يكون المعنى أحدُ الكذابِين المشهورين بالكذب.
          وهو من الكبائر، حتى قال الجويني من أئمة أصحابنا: يَكفر متعمده ويُراقُ دمه، والجمهور أنَّه لا يكفر إلَّا إن استحلَّه وإنَّما يفسقُ وتُرَدُّ رواياته كُلها ويَبطل الاحتجاج بجميعها، فلو تاب؛ الجمهور أنَّه لا تؤثر توبته ولا تُقبل روايته أبدًا بل يتحتم جرحه أبدًا، قال النووي في «شرح مسلم»: ولم أرَ دليلًا لمذهب هؤلاء، ويجوز أن يُوجَّه بأنَّ ذلك تغليظًا وزجرًا لِعظم مفسدةِ هذا، فإنَّه يصير شرعًا مستمرًا إلى يوم القيامة، بخلاف الكذب على غيره، وبخلاف الشهادة، فإنَّ مفسدتها قاصرة، ومع ذلك فالمختار القطعُ بصحة توبته وقبول روايته بعدها، وقد أجمعوا على صحة رواية مَن كان كافرًا وأسلم، وأكثر الصحابة كانوا كذلك وأجمعوا على قبول شهادته، ولا فرق بين الرواية والشهادة في هذا. انتهى.
          وسيأتي عن السيوطي ما يُصادمه.
          وكما تحرم روايته يحرمُ وضعه مطلقًا بإجماعِ مَن يُعتد بإجماعه خلافًا للكرَّامية _قومٌ من المبتدعة فنسبوا لمحمد بن كِرَام بتخفيف الراء على التحقيق / السِّجِسْتَاني_ فإنَّهم جوزوه في الترغيب والترهيب دون ما يتعلق به حكم من الثواب والعقاب، ترغيبًا للناس في الطاعة، وترهيبًا لهم عن المعصية، واستدلوا بما رُوي في بعض طرق الحديث: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا لِيُضِلَّ بِهِ النَّاسَ» وهي زيادةٌ اتفقَ الحفاظُ على بُطلانها، وبفرض صحتها فهي للتأكيد كقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ} الآية [الأنعام:144] ، أو أنَّ اللام للعاقبة وحملَ بعضهم حديث «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ»؛ أي: قال: إنَّه شاعر أو مجنون، وقال بعضهم: إنَّما نكذب له لا عليه، وقال بعض أهل الرأي فيما حكاه القرطبي: ما وافق القياس الجليَّ جازَ أن يُعزى إليه صلعم.
          قوله: (مُطْلَقًا)؛ أي: بيْنَ وضعهِ أولًا في الأحكام والعقائد أو غيرهما من الترغيب والترهيب والقصص والمواعظ ونحو ذلك، بخلاف الضعيف فيُعمل به فيما عدا الأحكام والعقائد على ما سبقَ من الخلاف فيه مفصلًا.
          قوله: (وَسَبَبَهُ)؛ أي: سببُ وضعِ الموضوعِ.
          وقوله: (نِسْيَانٌ) انظر ما معنى النسيان هنا، ويمكن أن يُصَوَّرَ بأن يروي حديثًا نَبَّهَهُ شيخهُ على وَضْعِهِ فينسى ذلك التنبيه ويرويه، لكن أنت خبيرٌ بأنَّ هذا ليس وضعًا لا حقيقة ولا حُكمًا، نعم كان يظهر ذلك لو قيل: وسبب روايته كذا، وإذا قلنا المرادُ ذلك لم يتجه ذلك في المعطوف أعني قوله: (أو افتراء) ويُمكن أن يكون مُراده بالنسيان الغلط فالمراد أنَّه بغير قصدٍ، وعبارة «التقريب» وشرحه: ورُبَّما وقعَ الراوي في شبه الوضع غلطًا منه بغير قصدٍ فليس بموضوع حقيقة، بل هو بقسم المدرج أولى، كما ذكره شيخ الإسلام في «شرح النخبة» قال: بأن يسوقَ الإسنادَ فيعرضُ له عارض فيقول كلامًا من عند نفسه فيظن بعض مَن سمعه أنَّ ذلك متن هذا الإسناد فيرويه عنه كذلك، كحديث رواه ابن ماجه، عن إسماعيل بن محمد، عن ثابت بن موسى الزاهد، عن شَريك، عن الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر مرفوعًا: «مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ بِاللَّيْلِ حَسُنَ وَجْهُهُ بِالنَّهَارِ»، قال الحاكم: دخلَ ثابت على شريكٍ وهو يُملي ويقول: حدثنا الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله صلعم، وسكت ليَكتب المُستملي، فلما نظرَ إلى ثابت قال: «مَنْ كَثُرَتْ صَلَاتُهُ... »إلى آخره، وقصد بذلك ثابتًا لزهده وورعه، فظنَّ ثابتٌ أنَّه متن ذلك الإسناد وكان يحدث به. انتهى.
          قوله: (أَو افْتِرَاءٌ)؛ أي: اختلاقٌ، وأنت خبيرٌ بأنَّ الافتراء هو الكذب ولا معنى لكون سبب الوضع؛ _أي: الكذب_ الكذب، ولا نحو لنحوه الداخل تحت قوله: (ونحوهما)(1) ، ويمكن أن يكون كناية عن عدم وجودِ سبب له أصلًا، وهو بعيدٌ لا معنى له؛ إذ لا بدَّ لفعل ذلك من داعٍ إلَّا أن تنزل دواعيه منزلة العدمِ.
          من أسبابه: إفساد الدِّين كما فعلت الزنادقة إذ وضعوا أربعة عشرة ألف حديث كما رواه العُقيلي، منهم عبد الكريم بن أبي العرجا الذي قُتل وصُلب في زمن المهدي، قال ابن عَدي: لمَّا أُخِذَ ليُضرب عنقه قال: وضعتُ فيكم أربعة آلاف حديث أُحرم فيها الحلال وأحللُ الحرامَ، ومحمد بن سعيد الشَّامي روى عن حُميد، عن أنس مرفوعًا: «أَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لَا نَبِيَّ بَعْدِي، إِلا أن يشاء الله»، وضعَ هذا الاستثناء لما كان يدعو إليه من الإلحاد والزندقة والدعوة إلى التَّنَبِي.
          ومنها: التعصب والانتصار للمذهب كالخطَّابية والرافضة؛ كما روي أنَّ رجلًا من أهل البدع رجعَ عن بدعته فجعلَ يقول: انظروا هذا الحديث عمن تأخذونه؛ فإنَّا كنا إذا رأينا رأيًا جعلنا له حديثًا.
          ومنها: اتباعُ هوى الرؤساء والأمراء تقرُّبًا إليهم بوضعِ ما يوافقُ فعلهم؛ كما فعل غياث بن إبراهيم حيث دخل على المهدي فوجده يلعب بالحَمَام فساقَ في الحال إسنادًا إلى النَّبيِّ صلعم وقال: «لَا سَبَقَ إلَّا في نَصْلٍ أو خُفٍّ أو حَافِرٍ أو جناحٍ»، فأمرَ لهُ المهدي بعشرة آلاف درهم، فلما خرج قال: أشهدُ أن قفاكَ قفا كذاب على رسول الله صلعم، ما قال رسول الله صلعم: «أو جناح»، وأمر بذبح الحمام وترك ما كان عليه، وقال: أنا الذي حَمَلته على ذلك.
          ومنها: قصدُ الأجر والثواب في زعمِ الواضعِ؛ كما فعلهُ قوم يُنسبون إلى الزهد والصلاح جهلًا منهم بما يجوز لهم وما يمتنع، كما قيل: أن أبا داود النَّخعي كان أطول الناس قيامًا بليل وأكثرهم صيامًا بنهار وكان يضع، وأنَّ وَهب بن حفص مكثَ عشرين سنة لا يُكلم أحدًا لاشتغاله بالعبادة وكان يكذب كذبًا فاحشًا، ولكن هؤلاء وإن خَفِيَ حَالُهُم على كثيرٍ فلم يخفَ على جهابذةِ الحديث ونُقَّادِهِ، قيل لابن المبارك في هذه الأحاديث المصنوعة فقال: تعيش لها الجهابذة، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] .
          ومن هؤلاء من وضعَ أحاديثَ فضل السُّور سورةً سورة، قيل لأبي عاصم نوح بن أبي مريم: من أين لك عن عكرمة عن ابن عباس / في فضل القرآن سورة سورة، وليس عند أصحاب عكرمة هذا؟ فقال: إني رأيتُ الناس قد أعرضوا عن القرآن، واشتغلوا بفقه أبي حنيفة، ومغازي ابن إسحاق، فوضعت هذا الحديث حسبة.
          وروي عن المؤمل بن إسماعيل قال: حدَّثني شيخ بما روي عن أُبيِّ بن كعب مرفوعًا في فضل القرآن سورة سورة، قال: حدَّثني به شيخ، فقلت للشيخ: مَن حدَّثك؟ قال: حدَّثني به رجل بالمدائن، وهو حي فصِرْت إليه، فقلت: مَن حدَّثك؟ قال: حدَّثني شيخ بواسط وهو حي فصِرْت إليه. فقال: حدَّثني شيخ بالبصرة فصِرْت إليه، فقال: حدَّثني شيخ بعبادان فصرتُ إليه، فأخذ بيدي فأدخلني بيتًا فإذا فيه قوم من المتصوفة ومعهم شيخ فقال: هذا الشيخ حدَّثني. فقلت: يا شيخ مَن حدَّثك؟ فقال: لم يحدثني أحد، ولكنَّا رأينا الناس قد رغبوا عن القرآن فوضعنا لهم هذا الحديث ليصرفوا قلوبهم إليه.
          قال النووي: وقد أخطأ من ذكره من المفسرين؛أي: كالزمخشري والبيضاوي.
          ومنهم مَن يقلب سندَ الحديث ليُستغرب فيُرغَب في سماعه منهم، كحمَّاد النصيبي والبهلول بن عُبيد.
          ومنهم من كان يرتزق بذلك ويتكسب به في القصص كأبي سعيد المدايني إلى غير ذلك.
          فوائد:
          الأولى: قال النَّسائي: الكَذَّابُون المعروفون بوضعِ الأحاديث أربعة: ابن أبي يحيى بالمدينة، والواقدي ببغداد، ومقاتل بخُراسان، ومحمد بن سعيد المصلوب بالشام.
          الثانية: قال السيوطي: وردَ في فضائل السور مفرَّقة أحاديث بعضها صحيح وبعضها حسن وبعضها ضعيف ليس بموضوع، ولولا خوف الإطالة لأوردت ذلك لئلا يتوهم أنَّه لم يصح في فضل السور شيء خصوصًا مع قول الدَّارقطني: أصح ما ورد في فضائل القرآن فضل: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص:1] وتفسير الحافظ عماد الدين ابن كثير أجلُّ ما يعتمد عليه في ذلك؛ فإنَّه أوردَ غالب ما جاء في ذلك مما ليس بموضوع وإن فاته أشياء، وقد جمعتُ في ذلك كتابًا لطيفًا سميته «حمائل الزهر في فضائل السور».
          ثم قال: واعلمْ أنَّ السور التي صحَّت الأحاديث في فضلها: الفاتحة، والزهراوان، والأنعام، والسبع الطوال مجملًا، والكهف، ويس، والدخان، والملك، والزلزلة، والنصر، والكافرون، والإخلاص، والمعوذتان، وما عداها لم يصح منه شيء. انتهى.
          والزهراوان البقرة وآل عمران، والسبع الطوال البقرة إلى آخر براءة بجعلها مع الأنفال سورةً واحدة.
          (أقول): وما تقدم أنَّ حديثَ سورة الصف أصح مُسلسل رُوي كما ذكره شيخ الإسلام، فليس في فضل قراءتها فلا يُضم لما ذُكر وقد نظمتُ الجميع بقولي:
وكلُّ حديثٍ جاءَ فيْ فضلِ سورةٍ                     فمَا صحَّ إِلَّا في المثانِي المفضَّلَه
وسبعٌ طوالٌ ثم الانفالُ كهفهُمُ                     ويس والدُّخَانُ مُلْكٌ وزلزله
كذا الكافرونَ النصـرُ الاخلاصُ عُوْذَتَا                     ن أيضًا وزهراوان خُذها مكمَّلَه
          الثالثة: قال الحافظ السيوطي: من الأحاديث الموضوعة أحاديث الأرز والعدس والباذنجان والهريسة، وفضائل من اسمه محمد وأحمد، ووصايا علي ☺.
          الرابعة: رُبما أسندَ الواضعُ كلامًا لبعض الحُكماء أو الزهاد أو الإسرائيليين؛ كحديث: «المعدة بيت الداء والحميةُ رأس الدواء» ولا أصل له من كلام النَّبيِّ صلعم، بل هو من كلام بعض أطباء العرب، وكحديث: «حبُّ الدنيا رأس كل خطيئة»، قال العراقي: هو إما من كلام مالك بن دينار كما رواه ابن أبي الدنيا بإسناده إليه، أو من كلام عيسى بن مريم كما رواه البيهقي في «الزهد»، ولا أصل له من حديث النَّبيِّ صلعم إلَّا من مراسيل الحسن البصري، وهي عند المحدثين شبه الريح، وردَّهُ شيخ الإسلام بأن مراسيله أثنى عليها أبو زُرعة وابن المديني فلا دليلَ على وضعه. انتهى.
          قال الحافظ السيوطي: والأمر كما قال. انتهى.
          قوله: (وَيُعْرَفُ بِإِقْرَارِ وَاضِعِهِ)؛ أي: أنَّه وضعه، كحديث فضائل القرآن المتقدم، واستشكل ابن دَقِيق العيد الحُكم بالوضع بإقرارِ من ادعاه؛ لأنَّ فيه عملًا بقوله بعد اعترافه على نفسه بالوضع، قال: وهذا كافٍ في رده لكن ليس بقاطع في كونه موضوعًا؛ لجواز أن يكذب في هذا الإقرار بعينه؛ أي: إنَّ الحُكم بالوضع بالإقرار ليس بأمرٍ قطعي موافقٍ لما في نفس الأمر لجواز كذبه في الإقرار على حدِّ ما تقدم أن المراد بالصحيح والضعيف ما هو الظاهر لا ما في نفس الأمر، ومثلُ الإقرار بالوضع ما ينزل منزلته كأن يُحدِّث بحديث عن شيخٍ لا يعرف ذلك الحديث إلَّا عنده، ولا يُعرف إلَّا برواية هذا عنه، وقد علمت وفاة ذلك الشيخ قبل / زمن هذا الراوي، وهل يثبت الوضع بالبينة؟.
          قال الزركشي: يُشبه أن يكون فيه التردد في أنَّ شهادة الزور هل تثبت بالبينة مع القطع بأنَّه لا يُعمل به. انتهى.
          قوله: (أَوْ قَرِيْنَةٍ فِي الرَّاوِي)؛ أي: كروايته عمَّن إذا سئل عن مولده ذكر تاريخًا يعلم به وفاة ذلك الشيخ قبله، وهو ممَّا سبق، وكذا كون الراوي رافضيًا والحديث في فضائل آل البيت، كما رُوي عن الزهري؛ عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: نظر النَّبيُّ صلعم إلى عليٍّ فقال: «أنت سيد في الدنيا سيد في الآخرة، ومن أحبك فقد أحبني، وحبيبك حبيبي، وحبيبي حبيب الله، وعدوُّك عدوي، وعدوِّي عدوُّ الله، والويل لمن أبغضك بعدي»، وأصله أنَّه كان لمعمَر ابن أخ رافضي، فدسَّ في كتب مَعْمَر هذا الحديث، فحدَّثَ بهِ عبد الرزاق عن معمر عن الزُّهري... إلى آخره، وهو باطل موضوع كما قاله ابن معين، وكذلك إذا رَوَىَ ما يفيد ذمًّا لمن يكرهه أو مدحًا لمن يحبه؛ كما قيل لمأمون بن أحمد الهَرَوي: ألا ترى إلى الشافعي ومن تبعه بخُراسان؟ فقال: حدَّثنا أحمد بن عبد البر: حدَّثنا عبد الله بن مِعدان الأزدي، عن أنس مرفوعًا: «يكون في أمتي رجل يقال له: محمد بن إدريس، أضرُّ على أمتي من إبليس، ويكون في أمتي رجل يقال له: أبو حنيفة هو سراج أمتي، هو سراج أمتي».
          قوله: (والمَرْوِي) مَثَّلَ لهُ في «التقريب» بالأحاديث الركيكة اللفظ والمعنى، وقال شيخ الإسلام: والمدار في الرِّكَّةِ على رِكَّةِ المعنى فحيثما وُجدت دَلَّ على الوضع وإن لم ينضم إليها ركة اللفظ؛ لأنَّ هذا الدين كله محاسن، والركة ترجع إلى الرداءة، قال: أمَّا ركة اللفظ فقط فلا تدلُّ على ذلك لاحتمال أن يكون رواه بالمعنى فغيَّرَ ألفاظه بغير فصيحٍ، نعم إن صرَّح بأنَّه من لفظ النَّبيِّ صلعم فكاذب. انتهى.
          ومن قرائنِ حال المروي: أن يكون مُخالفًا للعقل بحيث لا يقبلُ التأويل، كما رواه ابن الجوزي من طريق عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، عن أبيه، عن جده مرفوعًا: «أن سفينة نوح طافت بالبيت سبعًا وصلت عند المقام ركعتين».
          ومن قرائن ذلك أيضًا: تضمنه لما تتوفر الدواعي على نقله، أو كونه أصلًا في الدين ولم يتواتر كالنص الذي تَزْعم الرافضة أنَّه دلَّ على إمامة علي.
          وأن لا يوجد ذلك الحديث في صدور الرواة ولا بطون الكتب بعد استيعابها بحيث لا يبقى ديوان ولا راو إلَّا وقد كشف منه في جميع الأقطار، وهذا متعسر أو متعذر.
          ويلحق بذلك ما يدفعهُ الحسُّ والمشاهدة، أو يكون منافيًا لدلالة الكتاب القطعية أو السنة المتواترة أو الإجماع القطعي، أما المعارضة مع إمكان الجمع فلا.
          ومنها: الإفراط بالوعيد الشديد على الأمر الصغير كقوله: «من أكل الثوم ليلة الجمعة فليهو في النار سبعين خريفًا»، وكذا الوعد العظيم على فعل الشيء الحقير، كقوله: «لقمة في بطن جائع أفضل من بناء ألف جامع» وهذا كثير في أحاديث القصاص.
          تنبيه: ما ذكرهُ ابن الجوزي في كتابه في «الموضوعات» أدخل فيه كثيرًا ممَّا لا دليلَ على وضعه، بل بمجردِ كلام بعض الناس في أحدِ رُواتها، كقوله: فلانٌ ضعيف أو ليس بالقوي أو لين، وقد يكون ذلك في حديث لا يشهد العقل ببطلانه ولا فيه مخالفةٌ لكتابٍ ولا سنة ولا إجماع ولا حجة بأنَّه
          موضوع سوى كلام ذلك الرجل في راويه، وفيه الحَسن بل والصحيح.
          قال الذهبي: ربما ذكر ابن الجوزي في «الموضوعات» أحاديث حسانًا قوية.
          وقال شيخ الإسلام: غالب ما في كتاب ابن الجوزي موضوع، والذي يُنْتَقَدُ عليه بالنسبة إلى ما لا يُنْتَقَدُ قليل، ومن الضرر أنْ يُظنَّ ما ليس بموضوع موضوعًا كما يظنُّ ما ليس بصحيح صحيحًا. انتهى.
          ومن العجب منه أنَّه ذكر فيه حديثًا أخرجه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: «إن طَالَتْ بِكَ مُدَّةٌ أَوْشَكَ أَنْ تَرَى قَوْمًا يَغْدُونَ في سَخَطِ اللَّهِ وَيَرُوحُونَ في لَعْنَتِهِ، في أَيْدِيهِمْ مِثْلُ أَذْنَابِ الْبَقَرِ».
          قال شيخ الإسلام: لم أقفْ في كتاب «الموضوعات» على شيءٍٍ حكم عليه بالوضع وهو في أحد الصحيحين غير هذا الحديث وإنها لغفلة شديدة، ثم تكلم عليه وعلى شواهده.
          قوله: (وَظُلْمَةً كَظُلْمَةِ اللَّيْلِ) قال ابن الجوزي: الحديث المُنكر يقشعر له جلدُ الطالب للعلم، ويَنفُر قلبه منه في الغالب. انتهى.
          ومرادهُ بالمنكر الموضوع.


[1] في المطبوع: «أو نحوهما».