نيل الأماني في توضيح مقدمة القسطلاني

المعلل

          قوله: (وَالْمُعَلَّل) قال في «شرح التقريب»: هذا النوع من أجلِّ أنواعِ علومِ الحديثِ وأَشْرَفِهَا وأدقها، وإنَّما يتمكن منه أهل الحفظ والخبرة والفهم الثاقب.
          قال ابن مهدي: لأنْ أعرفَ علَّة حديث واحدٍ أحب إلي من أن أكتب عشرين حديثًا ليست عندي. انتهى.
          قال الحاكم: وإنَّما يُعلَّل الحديث عندنا من أوجهٍ ليس للجرح فيها مدخلٌ، والحجة في التعليل بالحفظ والفهم والمعرفة لا غير. انتهى.
          وسيأتي بقول الشارح (وهذا من أغمض...) إلى آخره؛ أي: هذا النوع من أغمض... إلى آخره، وكان الأحسن تقديمه؛ أي: هذا الكلام هنا؛ أي: في أول ترجمة هذا النوع.
          قوله: (وَلَاْ يُقَالُ: المَعْلُوْلُ)؛ أي: لأنَّ معلولًا مفعول من عَلَّهُ بالشراب إذا سقاهُ مرةً بعد أخرى، وهو ثلاثي وليس مما نحن فيه إذ هو من أَعَلَّهُ الله أصابه بعلة، وهو رباعي وقياس اسم المفعول منه مُعَلٌّ وأصله مُعلَّل كمُكرَّم ومُرسل، ولذا كان التعبير بمعلول لَحْنًا، وإن عَبَّرَ بهِ كثيرٌ من الفقهاء والمحدثين، قال ابن الصلاح: إنه مردود عربيةً ولغة. انتهى.
          والمُعلل / من عَلَّلَهُ يُعَلِّلُهُ تَعْلِيْلًا: شَغَلَهُ، وألهاهُ فهوَ مُعلل، ومنه تعليل الصبي بالطعام ونحوه، ولا يخفى أنَّه ليس مما نحن فيه أيضًا، إذ هو من باب التعليل بمعنى ذِكْر العلة المؤثرة، ولذا قال القرافي: الأجودُ بل الصواب فيما هنا المُعَلُّ كما هو قياس اسم المفعول من أَعَلَّ. انتهى.
          إنْ قُلت: هذا أيضًا ليس مما نحن فيه؟
          أُجيب: بأنَّه وإن لم يكن منه حقيقةً هو منه مجازًا، وصحَّح بعضهم التعبير بالمُعلَّل بطريق التجوز أيضًا لكن بمعنى مطلق التسامح لا بمعنى المصطلح عليه كما فيما قبله.
          هذا، وما ذكره الشارح من أنَّه لا يَقال: معلول، وقول ابن الصلاح: إنَّه مردود لغة وعربيةً، رَدَّهُ ابن هشام في «شرح بانت سعاد»، ونُقل عن الجوهري وغيره أنَّه يقال: أَعَلَّهُ فهو مَعْلُوْلٌ. إلَّا أنَّه قليلٌ، وقال ابن حجر: إِنَّهُ الأولى لوقوعه في عبارات أهل الفن مع ثُبوته لغةً، ومن حَفِظَ حُجَّةٌ.
          وقال في «نسيم الرياض»: إنَّهم استغنوا بمفعول عن مُفعل كما قالوا: «أحمد الله» فهو محمود، قال: وقد صرَّحَ به سِيْبَوْيه ونقله ابن سِيْدَه في «المحكم». انتهى.
           وأوضح ذلك ابن الطيب في «شرح نظم الفصيح» وغيره فتلخصَّ أنَّه يصح أن يقال فيما هنا: مُعَل ومُعَلَّل ومَعْلُول خلافًا لمن منعَ في الأخيرين.
          قوله: (ظَاهِرُهُ السَّلَاْمَة)؛ أي: من العِلَلِ القادحة في قبوله.
          وقوله: (لِجَمْعِهِ) في نسخ (بجمعه) بالموحدة، فالباء للسببية.
          وقوله: (شُرُوْطَ الصِّحَّةِ) تقدم أنَّها اتصالُ سندهِ بعدولٍ ضابطين إلى منتهاه من غير شذوذ ولا علة قادحة.
          قوله: (لَكِنْ فِيْهِ عِلَّةً)؛ أي: طرأت عليه فأثرت فيه، بأن اطُّلع فيه بعد البحث والتفتيش في طرقه على عِلَّةٍ قادحةٍ كما أوضحه الشارح.
          وقوله: (فِيْهَا غُمُوْضٌ) بيانٌ وتفسيرٌ لقوله (خفية)، وقد مَثَّلَ الشارح للخفية بقوله: (كَمُخَالَفَةِ رَاوٍ...) إلى آخره، فخرجَ بالخفيةِ الظاهرة؛ كإرسالِ الموصول ووقف المرفوع إذا كان راوي الإرسال والوقف أضبط أو أكثر عددًا من راوي الوصل أو الرفع فلا يُسمى الحديث بذلك معللًا اصطلاحًا، كإعلاله بكلِّ قدحٍ ظاهرٍ من فِسق في راويه أو غَفلة منه أو سوء حفظ أو نحو ذلك من أسباب ضعف الحديث، إذ الإرسال الجلي والوقف الجلي وكذا القطع الجلي والإدراج وغيرها لا يُطلق عليها في الاصطلاح المشهور اسم العلة، وإنَّما يُطلق على ما كان منها خفيًّا إذ لا يكون الحديث معلولًا عند الجمهور إلَّا إذا كانت العلة قادحة فيه وهي الخفية؛ كإبدال راوٍ بآخر، أو زيادة كلمة فيه لم يذكرها الجمهور، أو إعلال الموصول بالإرسال أو الوقف إذا كان راويهما أضبط أو أكثر عددًا، وأعلَّ الخليلي بغيرِ القادحةِ توسعًا كما إذا كان رواة الوقف أو الإرسال غير(1) أضبط أو أكثر عددًا، أو كانت العِلَّة في السَّند لا في المتن على ما يأتي حتى قال: من أقسام الصحيح صحيح معلول ممثِّلًا له بحديث مالك في الموطأ أنَّه بلغه أن أبا هريرة قال: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ» حيثُ وَصَلَهُ مالك في غير الموطأ فرواهُ عن محمد بن عَجلان، عن أبيه، عن أبي هريرة. قال: فقد صار الحديث بتبين الإسناد صحيحًا يعتمد عليه، ونقل عنه أنَّه شدَّد فردَّ بكل علة ولو غير قادحة.
          قوله: (كَمُخَالَفَةِ رَاوِي ذَلِكَ الحَدِيْثِ...) إلى آخره؛ أي: كما في حديث يَعلى بن عبيد الآتي، فإنَّه رواه عن عمرو بن دينار، وغيره إنَّما رواه عن أخيه عبد الله بن دينار.
          وقوله: (وتفرده...) إلى آخره؛ أي: كما في حديث مسلم الذي ساقه الشارح أيضًا من جهة الأوزاعي المشتمل على التصريح بنفي الافتتاح بالبسملة؛ فإنَّ هذه الزيادة انفرد بها الراوي ولم يتابعه أحدٌ عليها.
          قوله: (علَى وَهَمِه) بفتح الهاء؛ أي: غَلَطِهُ في تلك المخالفة، من وصلِ المرسل أو غير ذلك مما ذكره الشارح.
          وعبارة «التقريب وشرحه»: وتُدرك العلةُ بتفردِ الراوي وبمخالفة غيره له مع قرائن تنضم إلى ذلك تُنَبِّهُ العارفَ بهذا الشأنِ على وهمٍ وقع؛ بإرسالٍ في الموصول أو وقفٍ في المرفوع أو دخولِ حديث في حديث أو غير ذلك بحيث يغلب ذلك على ظنه فيحكم بعدم صحة الحديث أو يتردد فيتوقف فيه. انتهى.
          ثمَّ قال: والطريق إلى معرفته جمع طرق الحديث، والنظر في اختلاف رواته وضبطهم وإتقانهم، قال ابن المديني: البابُ إذا لم تُجمع طُرقه لم يتبين خطؤه، وكَثُرَ التعليلُ بالإرسال للموصول بأن تكون رواته أقوى ممن وصل. انتهى.
          قوله: (وَيَقَعُ فِي الْإِسْنَادِ...) إلى آخره؛ أي: تقعُ العلة في الإسناد والمتن، قال الجلال: ووقوعها في الإسناد أكثر. انتهى.
          وذلك بأن يختلف السند عن راوٍ واحدٍ فيرويه كلٌّ من الجماعة على وجهٍ مخالفٍ للآخر في وصله وإرساله أو في إثبات راوٍ وحذفه أو غير ذلك، وإذا وقعت في الإسناد فقد تقدح فيه وفي المتن أيضًا، كإرسال سند متصل، أو وقف مرفوع، أو إدراج أو غير ذلك ولم يقوَ الاتصال أو الرفع على الإرسال أو الوقف، وقد لا تقدحُ فيه بأن يتعدد السند أو يقوى الاتصال ونحوه، أو يكون الذي وقع / فيه الاختلاف تعيينُ واحدٍ من ثقتين كما مثَّل به الشارح من حديث «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ»، حيث رواه يَعلى بن عُبيد، عن الثَّوري، عن عَمرو بن دينار، عن ابن عمر، فقد صَرَّحَ النُّقاد بِوَهْمِهِ على الثوري، والمعروف من حديثه عن عبد الله بن دينار لا عمرو بن دينار، لكن هذه العلة لا تقدح في المتن؛ لأنَّ عبد الله وعمرًا كلاهما ثقةٌ.
          قوله: (وَأَمَّا عِلَّةُ المَتْنِ)؛ أي: القادحة فيه.
          قوله: (بِأَنَّ سَبْعَةً أَوْ ثَمَانِيَةً)؛ أي: مِمَّنْ رَوى هذا الحديث عن أنس منهم سفيان بن عيينة والفزاري والثقفي، والعدد الكثير أولى بالحفظ من واحدٍ.
          قوله: (وَلَمْ يَذْكُرُوا البَسْمَلَةَ)؛ أي: فلم يقولوا كما قال هذا الراوي: (لا يذكرون: بسم الله الرحمن الرحيم) بل اقتصروا على قوله (فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بـ {الْحَمْد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2])، قال الدَّارقطني: وهذا هو المحفوظ عن قَتَادة وغيره، عن أنس، قال البيهقي: وكذلك رواهُ عن قتادة أكثرُ أصحابه كأيوب وشُعبة والدَّسْتُوَائي وشيبان وسعيد بن [أبي](2) عروبة وأبي عَوانة وغيرهم، قال ابن عبد البر: فهؤلاء حُفَّاظُ أصحابِ قَتادة، وليس في روايتهم لهذا الحديث ما يُوجب سقوط البسملة، وهذا هو اللفظ المتفق عليه في الصحيحين وهو رواية الأكثرين.
          قوله: (وَالْمَعْنَى...) إلى آخره؛ أي: معنى رواية أولئك الجمهور من قولهم: (فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بــ {الْحَمْد لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}) وهذا ما أَوَّلَ بِهِ الشَّافعي ☺، وقد ورد التَّصريحُ بهِ في رواية الدَّارقُطني بسندٍ صحيحٍ بلفظ: (فَكَانُوا يَسْتَفْتِحُونَ بِأُمِّ القُرْآنِ).
          قوله: (وَيَتَأَيَّدُ)؛ أي: ما ذُكر من أنَّ أنسًا لم يروِ نفيَ البسملة، وأنَّ الذي زاد ذلك في آخر الحديث رَوى بالمعنى بحسبِ ما فَهِمَ فأخطأَ.
          وقوله: (بِمَا صَحَّ عَنْ أَنَسٍ)؛ أي: فيما أخرجهُ أحمد وابن خُزيمة بسنده على شرط الشيخين وأورد عليه أن من حفظه عنه حجةٌ على من سأله في حالِ نسيانه، وأجاب: أبو شامة بأنهما مسألتان فسؤال أبي سلمة عن البسملة وتَرْكِهَا، وسؤال قَتادة عن الاستفتاح بأي سورةٍ.
          قوله: (عَلَى أَنَّ قَتَادَةَ...) إلى آخره، هذه علاوةٌ مُبْدِيَة لعلةٍ أخرى قادحة أيضًا؛ وذلك أنَّه حيثُ كان أَكْمَهَ فلا بُدَّ أن يكون أمَرَ مَنْ كَتَبَ(3) إلى الأوزاعي، وهذا الكاتبُ لم يُسَمَّ فيُحتمل أن يكونَ مجروحًا أو غير ضابطٍ فلا تقومُ به الحُجَّةُ مع ما في أصلِ الرِّوايةِ بالكتابة من الخلاف، وأن بعضهم يرى انقطاعها كما سيأتي، فالحديثُ معلَّلٌ أيضًا بعِلَلٍ أُخْرَى غير المخالفة، وهي الكتابة وجهل الكاتب كما هو معلَّل بالإدراج والمُخالفة من الحفاظ والأكثرين.
          قال العراقي: وقول ابن الجوزي: إنَّ الأئمة اتفقوا على صحته، فيه نظرٌ، فهذا الشافعي والدارقطني والبيهقي لا يقولون بصحته. انتهى.
          فلم يثبت نفي البسملة بطريقٍ صحيحٍ، وقد ورد ثبوت قراءتها في الصلاة عنه صلعم من حديث أبي هريرة من طرقٍ عند الحاكم وابن خُزيمة والنَّسائي والدَّارقُطني والبَيهقي والخطيب، ومن حديث ابن عباس عند الترمذي والحاكم والبيهقي، وعن عثمان وعلي وعمار بن ياسر وجابر ابن عبد الله والنُّعمان بن بشير وابن عمر وعائشة عند الدَّارقُطني، وأم سَلمة عند الحاكم وجماعة من المهاجرين والأنصار عند الشافعي، فبلغَ ذلكَ مبلغ التواتر، وقد بيَّنَ طُرُقَ هذهِ الأحاديث الحافظ السيوطي في «الأزهار المتناثرة» فلم يبقَ مع ذلك ريبةٌ في ثبوتها.
          قوله: (وَهَذَا أَهُمُّ فِيْ التَّعْلِيْلِ) المتبادرُ أنَّ اسمَ الإشارةِ راجعٌ إلى الجهل بحال الكاتبِ، وأنَّ المراد أن تعليلَ الحديث بالكتابةِ وجهلِ الكاتب أهم من تعليله بغير ذلك من مخالفة الأكثر مثلًا، ولينظر وجهُ الأهميةِ، ولعلَّه لأنَّ فيه عِلَّتين، وللاتفاق على الردِّ بالجهل وتضعيف رواية المجهول.
          قوله: (وَهَذَا مِنْ أَغْمَضِ أَنْوَاعِ الحَدِيْثِ) الإشارةُ إلى التعليل من حيث هو، وإنَّما كان مِن أغمضها وأدَقِّها لأنَّه لا يُعرف إلَّا بجمع طرق الحديث والبحث عنها والنظر في اختلاف رواته وضبطهم وإتقانهم.
          قوله: (إِلَّا ذُوْ فَهْمٍ ثَاقِبٍ) قال في «شرح التقريب»: ولهذا لم يتكلم فيه إلَّا القليل كابن المديني وأحمد والبخاري ويعقوب بن شَيبة وأبي حَاتِم وأبي زُرعة والدَّارقطني.
          قوله: (كَالْصَيْرَفِيِّ...) إلى آخره، روي عن ابن مهدي أنَّه قيل له: إنك تقول للشيء: هذا صحيح، وهذا لم يثبت فعمن(4) تقول ذلك؟ فقال: أرأيت لو أتيتَ الناقد فأريته دراهمك، فقال: خذ هذا جيد وهذا رديء، أكنت تسأله عَمَّنْ ذلك أو تُسلِّم له؟ قال: بل أُسلِّم له، قال: فهذا كذلك لطول المجالسة والمناظرة والخبرة.
          وقد قسم الحاكم العلل إلى عشرة أقسام ولخَّصَها الجلال في «شرح التقريب»، فانظره.


[1] أي: ليسوا.
[2] زيادة لا بدَّ منها.
[3] في المطبوع: «أملى من كتب».
[4] في المطبوع: (فمن).