مزيد فتح الباري بشرح البخاري

باب إنما جعل الإمام ليؤتم به

          ░51▒ (بَابٌ: إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ)
          أي: هذا باب ترجمته: إنما جُعِل الإمام ليؤتَمَّ أي: ليُقتَدَى به، وهذه الترجمة قطعةٌ من حديث مالك من أحاديث الباب على ما يأتي إن شاء /  الله تعالى.
          قوله: (وَصَلَّى النَّبِيُّ صلعم فِي مَرَضِهِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ بِالنَّاسِ وَهُوَ جَالِسٌ) هذا التعليقُ تقدم مسندًا من حديث عائشة ♦. فإن قلتَ: هذا لا دخل له في الترجمة، فما فائدة ذكره؟ أجيب: بأنه يشير به إلى أن الترجمة التي هي قطعةٌ من الحديث عامٌّ يقتضي متابعة المأمومِ الإمامَ مطلقًا، وقد لحقه دليل الخصوص، وهو حديث عائشة: فإن النبي صلعم صلى في مرضه الذي توفي فيه وهو جالس، والناس خلفه قيام، ولم يأمرهم بالجلوس. فدل على دخول التخصيصِ في عموم قوله: (إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ).
          قوله: (وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ) قلتُ: أي: عبد الله، ترجمته في باب بنيَ الإسلام على خمس.
          قوله: (إِذَا رَفَعَ قَبْلَ الإِمَامِ يَعُودُ، فَيَمْكُثُ بِقَدْرِ مَا رَفَعَ، ثُمَّ يَتْبَعُ الإِمَامَ) هذا التعليق وصله ابن أبي شيبة بسندٍ صحيحٍ عن هُشيم أخبرنا حُصَين عن هلال بن يساف عن أبي حَيَّان الأشجعي _وكان من أصحاب عبد الله_ قال: قال عبد الله: لا تبادروا أئمتكم بالركوع ولا بالسجود، وإذا رفع أحدكم رأسه والإمام ساجد فليسجد ثم ليمكث قدر ما سبق به الإمام.
          قال شيخنا: هذا السياق أتمُّ، وكأنه أخذه من قوله ◙: (إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ)، ومِن قوله: (وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا). وروى عبد الرزاق عن عمر نحو قولِ ابن مسعود بإسنادٍ صحيح، ولفظه: ((أيَّما رجل رَفَعَ رأسَه قبل الإمام في ركوعٍ أو سجودٍ فليضع رأسه بقدْر رفعه إياه)). قال ابن المنير: إذا كان الرافع المذكور يؤمَر عنده بقضاء القدْر الذي خرج فيه عن الإمام فأوْلَى أن يَتَّبِعَه في جملة السجودِ فلا يسجدُ حتى يسجدَ. وظهرت بهذا مناسبة هذا الأثر للترجمة. انتهى.
          ورواه البيهقي من طريق ابن لَهِيعة، وقال البيهقي: وروينا عن إبراهيمَ والشعبي أنه يعود فيسجد. وحكى ابن سحنون عن أبيه نحوَه. قال العيني: ومذهب مالك أن مَن خفض أو رفع قبل إمامه أنه يرجع فيفعل ما دام إمامه لم يرفعْ من ذلك، وبه قال أحمد وإسحاق والحسنُ والنَّخَعِيُّ، وروي نحوه عن عمر، ☺، وقال ابنه: من ركع أو سجد قبل إمامه لا صلاة له. وهو قول أهل الظاهر. وقال الشافعي وأبو ثور: إذا ركع أو سجد قبلَه فإن أدركه الإمامُ فيهما أساءَ ويجزيه، حكاه ابن بطال. قال العيني: ولو أدرك الإمامَ في الركوع فكبر مقتديًا(1) به ووقَفَ حتى رفع الإمام رأسه فركع لا يجزيه عندنا، خلافًا لزفر. انتهى. قلت: وعندنا إذا لم يدرك الإمام في الركوع مع الطمأنينة بعد بلوغ أقلِّه لم تُحسَب له تلك الركعة. انتهى.
          قوله: (وَقَالَ الحَسَنُ) أي: البصري، ترجمته في باب {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا} في كتاب الإيمان.
          قوله: (فِيمَنْ يَرْكَعُ مَعَ الإِمَامِ رَكْعَتَيْنِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ: يَسْجُدُ لِلرَّكْعَةِ الآخِرَةِ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ يَقْضِي الرَّكْعَةَ الأُولَى بِسُجُودِهَا، وَفِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً حَتَّى قَامَ: يَسْجُد) في قول الحسن هذا فرعان: أما الفرع الأول وهو قوله: (فِيمَنْ يَرْكَعُ) إلى قوله (بِسُجُودِهَا) فوصله ابن المنذر في كتابه «الكبير»، ورواه / سعيد بن منصور عن هُشَيم عن يونس عن الحسن، ولفظه: في الرجل يركع يوم الجمعة فيزحَمُه الناس فلا يقدر على السجود، قال: فإذا فرغوا من صلاتهم سجد سجدتين لركعته الأولى ثم يقوم فيصلي ركعة وسجدتين. قال شيخنا: ومقتضاه أن الإمام لا يتحمل الأركان، فمَن لم يقدر على السجود معه لم تصح له الركعة.
          قوله: (وَلَا يَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ) أي: لزحامٍ ونحوه، على السجود بين الركعتين، وقد فسَّره فيما رواه سعيد بن منصور بقوله: في الرجل يركع يوم الجمعة فيزْحَمُه الناس... إلى آخره. وإنما ذكر يوم الجمعة في هذا، وإن كان الحكم عامًّا، لأن الغالب في يوم الجمعة ازدحام الناس.
          قوله: (الآخِرَةِ) ويروى: (الْأَخِيرَةِ)، وإنما قال: الركعة الأولى دون الثانية لاتصال الركوع الثاني به.
          وأما الفرع الثاني وهو قوله: (وَفِيمَنْ نَسِيَ سَجْدَةً حَتَّى قَامَ: يَسْجُد) فوصله ابن أبي شيبة، وسياقه أتمُ ولفظُه: في رجلٍ نسيَ سجدة مِن أول صلاته فلم يذكرها حتى كان في آخرِ ركعةٍ من صلاته، قال: يسجد منها ثلاث سجدات، فإن ذكرها قبل السلام يسجد سجدة واحدة وإن ذكرها بعد انقضاء الصلاة يستأنف الصلاة. قال شيخنا: ومناسبته للترجمة من جهة أنَّ المأمومَ لو كان له أن ينفرد عن الإمام لم يستمر متابِعًا له في صلاته التي اختل بعضُ أركانها حتى يحتاجَ إلى تدارُكِه بعد فراغِ الإمام. قال العيني: وقال مالك في مسألة الزحامِ: لا يَسجُد على ظهر أحدٍ، فإنْ خالفَ يُعيد، وقال أصحابُنا _أي الحنفيةُ_ والشافعيُّ وأبو ثور: يسجد ولا إعادة عليه. انتهى.


[1] في الأصل: «معتديا»، والصواب: «مقتديا».