مزيد فتح الباري بشرح البخاري

[كتاب الأذان]

          ♫
          كِتَابُ الأَذَانِ
          أي: هذا كتاب في بيان أحكام الأذان، وفي بعض النُّسَخ بعد البسملة: «أبواب الأذان» / ، قلت: وهو الذي شرح عليه شيخنا، ولم يذكر كتاب. انتهى. وسقطت البسملة في رواية القابسي وغيره.
          والأذان لغةً: الإعلام، قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ}[التوبة:3] قال شيخنا: واشتقاقه من الأَذَنِ بفتحتين، وهو الاستماع، وقال العَيني: من أذَّن يؤذِّن تأذينًا وأذانًا، مثل: كلَّم يكلِّم تكليمًا وكلامًا، فالأذان والكلام اسم المصدر القياسي، وقال الهروي: الأذان والأذين والتأذين بمعنى، وقيل: الأذين المؤذِّن، فعيل بمعنى مفعل، وأصله من الأذن، كأنَّه يلقي في آذان النَّاس بصوته ما يدعوهم إلى الصلاة.
          وفي الشريعة: الأذان إعلام مخصوص بألفاظ مخصوصة، في أوقات مخصوصة. ويُقال: الإعلام بوقت الصَّلاة الَّتي عيَّنها الشَّارع بألفاظ(1) مثناة، وقال القُرْطُبي وغيره: الأذان على قلَّة ألفاظه مشتمل على مسائل العقيدة، لأنَّه بدأ بالأكبرية، وهي تتضمَّن وجود الله وكماله، ثمَّ ثنَّى بالتوحيد ونفي الشريك، ثمَّ بإثبات الرسالة بمحمَّد صلعم، ثمَّ دعا إلى الطاعة المخصوصة عقيب الشَّهادة بالرسالة، لأنَّها لا تعرف إلَّا من جهة الرسول، ثمَّ دعا إلى الفلاح وهو البقاء الدائم، وفيه الإشارة إلى المعاد، ثمَّ أعاد ما أعاد توكيدًا، ويحصل من الأذان: الإعلام بدخول الوقت، والدُّعاء إلى الجماعة، وإظهار شعائر الإسلام.
          والحكمة في اختيار القول له دون الفعل، سهولة القول وتيسيره لكلِّ أحد في كلِّ زمان ومكان.
          واختلف له أيُّما أفضل الأذان أو الإقامة؟ ثالثها: إن علم من نفسه القيام بحقوق الإمامة فهي أفضل، وإلا فالأذان، وفي كلام الشَّافعي ما يومئ إليه، واختُلِفَ أيضًا في الجمع بينهما، فقيل: يكره، وفي البَيْهَقي من حديث جابر مرفوعًا: النَّهي عن ذلك لكن سنده ضعيف، وصحَّ عن عمر: لو أطيق الأذان مع الخلافة لأذَّنت، رواه سعيد بن مَنْصور وغيره، وقيل: خلاف الأولى، وقيل: مستحبٌّ وصححه النَّوَوي ☺.
          (بَابُ بِدْءِ الأَذَانِ) أي: هذا باب في بيان ابتداء الأذان، وليس في رواية أبي ذرٍّ لفظ باب.
          قوله: (وَقُوْلِ الله تَعَالَى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاة اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}[المائدة:58] وقولِهِ: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الجُمُعَةِ}[الجمعة:9])
          قوله: (وَقَوْلِ اللهِ) مجرور لأنَّه عطف على لفظ بدء، وقوله الثَّاني عطف عليه، وإنما ذكر هاتين الآيتين إما للتبرك، أو لإرادة ما بوَّب له، وهو بدء الأذان، وإن ذلك كان بالمدينة، والآيتان المذكورتان مدنيتان، وقد ذكر أهل التفسير أن اليهود لما سمعوا الأذان، قالوا: لقد ابتدعت يا محمَّد شيئًا لم يكن فيما مضى، فنزلت: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}[المائدة:58] الآية، واختلف في السنة الَّتي فُرِضَ فيها، فالراجح أن ذلك كان في السنة الأولى، وقيل: بل كان في السنة الثانية، ورُوِيَ عن ابن عبَّاس: أنَّ فَرض الأذان نزل مع هذه الآية، أخرجه أبو الشيخ.
          تنبيه: الفرق بين ما في الآيتين من التعدية بإلى وباللَّام، أنَّ صلات الأفعال تختلف بحسب مقاصد الكلام، فقصد في الأولى: معنى الانتهاء، وفي الثانية: معنى الاختصاص، لأنَّ الحروف ينوب بعضها عن بعض قاله الكِرْماني، ويحتمل أن تكون اللام بمعنى إلى / أو العكس، والله أعلم.
          قال العَيني: أما الآية الأولى ففي سورة المائدة، وإيراد البخاري هذه الآية ههنا إشارة إلى أن بدء الأذان بالآية المذكورة كما ذكرنا، وعن هذا قال الزمخشري في «تفسيره» قيل: فيه دليل على ثبوت الأذان بنص الكتاب، لا بالمنام وحده.
          قوله: ({وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ}[المائدة:58]) يعني إذا أذَّن المؤذِّن للصلاة، وإنَّما أضاف النداء إلى جميع المسلمين، لأنَّ المؤذِّن يؤذِّن لهم ويناديهم فأضاف إليهم، فقال: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاة اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا}[المائدة:58] يعني الكفَّار إذا سمعوا الأذان استهزؤوا بهم، وإذا رأوهم ركوعًا وسجودًا ضحكوا عليهم واستهزؤوا بذلك.
          قوله: {ذَلِكَ}[المائدة:58] يعني الاستهزاء، {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُوْنَ}[المائدة:58] يعني لا يعلمون ثوابهم، وقال أسباط عن السدي قال: كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي أشهد أنَّ محمَّدًا رسول الله قال: حُرق الكاذب، فدخلت خادمته ليلة من اللَّيالي بنار وهو نائم، فسقطت شرارة فأحرقت البيت، فاحترق هو وأهله، رواه ابن جرير وابن أبي حاتم.
          وأما الآية الثانية ففي سورة الجمعة فقوله: ({نُوْدِيَ لِلصَّلَاةِ}[الجمعة:9]) أراد بهذا النداء الأذان عند قعود الإمام على المنبر للخطبة، ذكره النَّسَفي في «تفسيره».
          وحديث ابن عُمَر المذكور في هذا الباب، ظاهر في أنَّ الأذان إنَّما شُرع بعد الهجرة، فإنَّه نفى النداء بالصلاة قبل ذلك مطلقًا، وقوله في آخره: (يَا بِلَالُ، قُمْ فَنَادِ بِالصَّلَاةِ)، كان ذلك قبل رؤيا عبد الله بن زيد، وسياق حديثه يدلُّ على ذلك، كما أخرجه ابن خُزَيمَة وابن حبَّان من طريق محمَّد بن إِسْحاق حدَّثني محمَّد بن إبراهيم التَّيمي عن محمَّد بن عبد الله بن زيد بن عبد ربُّه، فذكر نحو حديث ابن عمر، وفي آخره: ((فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ أُرِيَ عَبْدُ اللهِ النِّدَاءَ)) فذكر الرؤيا وفيها صيغة الأذان، لكن بغير ترجيع، وفيه تربيع التكبير، وإفراد الإقامة، وتثنية قد قامت الصَّلاة، وفي آخره قوله صلعم: (إِنَّهَا لَرُؤْيَا حَقٌّ إِنْ شَاءَ اللهُ، فَقُمْ [مع](2) بِلَالٍ فَأَلْقِهَا عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ أَنْدَى صَوْتًا مِنْكَ).
          وفيه مجيء عُمَر ☺، وقوله: إنَّه رأى مثل ذلك، وقد أخرج التِّرْمِذي في ترجمة بدء الأذان، حديث عبد الله بن زيد، مع حديث عبد الله بن عمر، وإنما لم يخرجه البخاري لأنَّه على غير شرطه، وقد روي عن عبد الله بن زيد من طرق، وحكى ابن خُزَيمَة عن الذهلي أنَّه ليس في طرقه أصحُّ من هذه الطريق، وشاهده حديث عبد الرزَّاق عن مَعْمَر عن الزُّهْري عن سعيد بن المُسَيِّب مرسلًا، ومنهم(3) من وصله عن سعيد عن عبد الله بن زيد، والمرسل أقوى إسنادًا. ووَقَعَ في «الأوسط» للطبراني: أنَّ أبا بكر أيضًا رأى الأذان، ووَقَعَ في «الوسيط» للغزالي: أنَّه رآه بضعة عشر رجلًا، وعبارة الجيلي في «شرح التنبيه»: أربعة عشر، وأنكره ابن الصلاح والنووي، ونقل مُغُلْطاي: أنَّ في بعض كتب الفقهاء أنَّه رآه سبعة، ولا يثبت شيء من ذلك إلَّا لعبد الله بن زيد، وقصة عُمَر جاءت في بعض طرقه، وفي مسند الحارث بن أبي أسامة بسندٍ واهٍ عن...(4)، قال: ((أوَّل مَنْ أذَّن بالصلاةِ جبريل في السَّماء الدنيا، فسمعه عُمَر وبلال، فسبق عُمَر بلالًا، فأخبر النَّبِيَّ صلعم، ثمَّ جاء بلال فقال له: سبقك بها عمر)).
          فائدتان: وردت أحاديث تدلُّ على أنَّ الأذان شُرع بمكَّة قبل الهجرة، منها / للطبراني من طريق سالم بن عبد الله بن عُمَر عن أبيه قال: ((لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلعم أَوْحَى اللهُ إِلَيْهِ الأَذَانَ فَنَزَلَ بِهِ فَعَلَّمَهُ بِلَالًا)) وفي إسناده طلحة بن زيد وهو ضعيف متروك، وللدارقطني في «الأفراد»(5) من حديث أنس: ((أَنَّ جِبْرِيلَ أَمَرَ النَّبِيَّ صلعم بِالأَذَانِ حِينَ فُرِضَتِ الصَّلَاةُ)) وإسناده ضعيف أيضًا، ولابن مردويه من حديث عائشة مرفوعًا: ((لَمَّا أُسْرِيَ بِي، أَذَّنَ جِبْرِيلُ فَظَنَّتِ المَلَائِكَةُ أنَّه يصلِّي بِهِمْ، فَقَدَّمَنِي فَصَلَّيْتُ)) وفيه من لا يُعرف، وللبزَّار وغيره من حديث علي قال: ((لَمَّا أَرَادَ اللهُ أَنْ يُعَلِّمَ رَسُولَهُ الأَذَانَ، أَتَاهُ جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا البُرَاقُ فَرَكِبَهَا)) فذكر الحديث، وفيه: ((إِذْ خَرَجَ مَلَكٌ مِنْ [وَرَاءِ](6) الحِجَابِ، فَقَالَ: اللهُ أَكْبَرُ اللهُ أَكْبَرُ)) وفي آخره: ((ثُمَّ أَخَذَ المَلَكُ بِيَدِهِ فَأَمَّ بِأَهْلِ السَّمَاءِ)) وفي إسناده زياد بن المنذر أبو الجارود، وهو متروك أيضًا. ويمكن على تقدير الصحَّة أن يحمل على تعدُّد الإسراء، فيكون ذلك وَقَعَ بالمدينة.
          وأما قول القُرْطُبي: لا يلزم من كونه سمعه ليلة الإسراء أن يكون مشروعًا في حقِّه، ففيه نظر، لقوله في أوَّله: لما أراد الله أن يُعلِّم رسوله الأذان، وكذا قول المحبِّ الطَّبَرِي: يُحمل الأذان ليلة الإسراء على المعنى اللُّغَوي وهو الإعلام، ففيه نظر أيضًا، لتصريحه بكيفيَّته المشروعة فيه، والحقُّ أنَّه لا يصحُّ شيء من هذه الأحاديث، وقد جزم ابن المنذر بأنَّه ╕ كان يصلِّي بغير أذان منذ فرضت الصَّلاة بمكَّة، إلى أن هاجر إلى المدينة، وإلى أن وَقَعَ التشاور في ذلك، على ما في حديث عبد الله بن عُمَر، ثمَّ حديث عبد الله بن زيد. انتهى. وقد حاول السُّهَيلي الجمع بينهما فتكلَّف وتعسَّف، والأخذ بما صحَّ أولى، فقال بانيًا على صحة الحكمة في مجيء الأذان على لسان الصَّحابي: ((أنَّ النَّبِيَّ صلعم سمعه فوق سبع سماوات، وهو أقوى من الوحي، فلمَّا تأخَّر الأمر بالأذان عن فرض الصَّلاة، وأراد إعلامهم بالوقت، فرأى الصحابي المنام فقصَّها، فوافقت ما كان النَّبِيُّ صلعم سمعه، فقال: إنَّها لَرُؤْيَا حَقّ وعلم حينئذ أنَّ مرادَ الله بما أراه في السَّماء أن يكون سنَّة في الأرضِ))، ويَقْوَى ذلك بموافقة عُمر، لأنَّ السكينة تَنْطق على لسانه، والحكمة أيضًا في إعلام النَّاس به على غير لسانه صلعم للتنويه بعبده والرفع لذكره بلسان غيره، ليكون [أقوى](7) لأمره وأفخم لشأنه. انتهى ملخصًا.
          والثاني: حسن بديع، ويؤخذ منه عدم الاكتفاء برؤيا عبد الله بن زيد، حتَّى أُضيف عُمَر للتقوية الَّتي ذكرها. لكن قد يقال: فلم لا أقتصر على عمر؟ فيمكن أن يجاب ليصير في معنى الشهادة، وقد جاء في رواية ضعيفة سبقت، ما ظاهره أنَّ بلالًا أيضًا رأى، لكنها مؤوَّلة فإنَّ لفظها: (سَبَقَكَ بِهَا بِلَال) فيحمل المراد بالسبق على مباشرة التأذين لرؤيا عبد الله بن زيد.
          ومما يكثر السؤال عنه: هل باشر النَّبِيُّ صلعم الأذان بنفسه؟ وقد وَقَعَ عند السُّهَيلي: ((أَنَّ النَّبِيَّ صلعم أَذَّنَ فِي سَفَرٍ، وَصلَّى بِأَصْحَابِهِ وَهُمْ عَلَى رَوَاحِلِهِمُ، السَّماء مِنْ فَوْقِهِمْ وَالبِلَّةُ مِنْ أَسْفَلِهِمْ)) أخرجه التِّرْمِذي من طريق تدور على عُمَر بن أبي الرمَّاح، يرفعه إلى أبي هريرة. انتهى. وليس هو من حديث أبي هريرة، وإنَّما من حديث يعلى بن مُرَّة، وكذا جزم النَّوَوي بأنَّ النَّبِيَّ صلعم / أذَّن مرَّة في السَّفر وعزاه للتِّرْمِذي وقوَّاه، ولكن وجدناه في مسند أحمد من الوجه الذي أخرجه التِّرْمِذي ولفظه: ((فَأَمَرَ بِلَالًا فَأَذَّنَ)) فعرف أنَّ في رواية التِّرْمِذي اختصارًا، وأنَّ معنى قوله: ((أَذَّنَ)) أمر بلالًا به، كما يقال: أعطى الخليفة العالم الفلاني ألفًا، وإنَّما باشر العطاء غيره، ونسب للخليفة لكونه أمر به.
          ومن أغرب ما وَقَعَ في بدء الأذان، ما رواه أبو الشيخ بسند فيه مجهول عن عبد الله بن الزُّبَيْر قال: ((أُخِذَ الأَذَانُ مِنْ أَذَانِ إِبْرَاهيمَ ◙: {وَأَذِّنْ فِي النَّاس بِالْحَجِّ}[الحج:27] الآية. قَالَ: فَأَذَّنَ رَسُولُ اللهِ صلعم)) وما رواه أبو نُعَيم في «الحلية» بسند فيه مجاهيل: ((أَنَّ جِبْرِيلَ نَادَى بِالأَذَانِ لِآدَمَ حِينَ أُهْبِطَ مِنَ الجَنَّةِ)).
          الثانية: قال الزَّين بن المنيِّر: أعرض البخاري عن التصريح بحكم الأذان، لعدم إيضاح الآثار الواردة فيه عن حكم معين، فأثبت مشروعيته وسَلِمَ من الاعتراض. وقد اختلف في ذلك، ومنشأ الاختلاف أن مبدأ الأذان لما كان عن مشورة أوقعها النَّبِيُّ صلعم بين أصحابه، حتَّى استقر برؤيا بعضهم فأقره، كان ذلك بالمندوبات أشبه، ثمَّ لما واظب على تقريره ولم ينقل أنَّه تركه، ولا أمر بتركه(8) ولا رخص في تركه، كان ذلك بالواجبات أشبه. انتهى. وسيأتي بقيَّة الكلام على ذلك قريبًا إن شاء الله تعالى.


[1] قوله: «بألفاظ» زيادة من العمدة.
[2] ليس في الأصل، وأضيفت من فتح الباري.
[3] قوله: «ومنهم» زيادة من الفتح.
[4] في الأصل بياض بمقدار كلمتين.
[5] في الفتح: «الأطراف».
[6] قوله: «وراء» ليس في الأصل، وأضيف لتمام المعنى من فتح الباري.
[7] قوله: «أقوى» ليس في الأصل، وأضيفت لتمام المعنى من فتح الباري.
[8] قوله: «ولا أمر بتركه» زيادة من الفتح.