مزيد فتح الباري بشرح البخاري

باب فضل صلاة الجماعة

          ░30▒ (بَابُ فَضْلِ الجَمَاعَةِ)
          أي: هذا بابٌ في بيان فضل الصلاة بالجماعة، وفي بعض النسخ: ”باب فضل صلاة الجماعة“، لا يقال: إن بين هذه الترجمة وبين ترجمة الباب الذي قبله منافاة، لأن هذه في بيان الفضيلة، وتلك في بيان الوجوب، لأنَّا نقول: كون الشيء مُتَّصفًا بالوجوب لا ينافي اتصافه بالفضيلة.
          قال شيخنا: لكن الفضائل تتفاوت، فالمراد من الترجمة بيان زيادة ثواب الجماعة على صلاة الفذ. انتهى.
          قوله: (وَكَانَ الأَسْوَدُ) أي: ابن يزيد النخعي، أحد كبار التابعين، ترجمته في باب من ترك بعض الاختيار في كتاب العلم.
          قوله: (كان إِذَا تفوته الصلاة بالجَمَاعَة في مسجد يذهَبُ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ ليصلي فيه بالجَمَاعَة) مطابقته للترجمة ظاهرة، وهي أنه لولا ثبوتُ فضيلة الجماعة عندَه لَمَا ترك فضيلةَ أول الوقتِ والمبادرةَ إلى خلاص الذمة، وتوجه إلى مسجد آخر. كذا أشار إليه ابن المنير.
          قال شيخنا: والذي يظهر لي أن البخاري قصد الإشارةَ بأثر الأسود وأنس إلى أن / الفضلَ الوارد في أحاديث البابِ مقصورٌ على من جمع في المسجد دون من جمع في بيته مثلًا كما سيأتي البحثُ فيه في الكلام على حديث أبي هريرة، لأن التجميع لو لم يكن مختصًّا بالمسجد لجمع الأسودُ في مكانه، ولم ينتقل إلى مسجدٍ آخر لِطلبِ الجماعة، ولَمَا جاء أنس إلى مسجد بني رِفاعة كما سنبينُه. انتهى.
          قلت: وهذا الذي قاله شيخنا يحتاج إلى أنَّ الأسود أمكنه الجماعةُ فترَكَها وطلب جماعة المسجد، وقد حصل هذا لأنس _كما سيأتي_ وطَلَب المسجد، فسَانَدَ قول شيخنا. انتهى.
          ووصل(1) هذا التعليق أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيح، ولفظُه: إذا فاتته الجماعة في مسجد قومه ذهب إلى مسجد آخر. وقال صاحب «التوضيح» _أي: ابن الملقن_: وقد رُوي ذلك عن حذيفة وسعيد بن جبير، وذكر الطحاوي عن الكوفيين ومالك: إن شاء صلى في مسجد وحده، وإن شاء أتى مسجدًا آخر يطلب فيه الجماعة. إلا أن مالكًا قال: إلا أن يكون في المسجد الحرام أو مسجدِ رسول الله صلعم فلا يخرج منه ويصلي فيه وحده، لأن الصلاة في هذين المسجدين أعظمُ أجرًا ممن صلى في جماعة. انتهى.
          قلت: وعلى مقتضى هذا التعليل يكون المسجد الأقصى كذلك. انتهى.
          وقال الحسن البصري: ما رأينا المهاجرين يتبعون(2) المساجد. وفي «مختصر ابن سفيان(3)» عن مالك: من صلى في جماعةٍ لا يعيد في جماعةٍ إلا في مسجد مكة والمدينة.
          قلت: مذهب الشافعي: يعيد في جماعة ولو كان صلى في جماعة، ولابن الرِّفعة فيه بحث. انتهى.
          قوله: (وَجَاءَ أَنَسُ) أي: ابنُ مَالِكٍ، ترجمته في باب من الإيمان أن يحب لأخيه.
          قوله: (إِلَى مَسْجِدٍ قَدْ صُلِّيَ فِيهِ، فَأَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى جَمَاعَةً) مطابقته للترجمة ظاهرة كالتي قبلها.
          وهذا التعليق رواه ابن أبي شيبة عن ابن عُلَيَّة عن الجعد أبي عثمان عنه، وعن هشيم أخبرنا يونس بن عبيد حدثني أبو عثمان فذكره، ووصله أيضًا أبو يعلى في «مسنده» من طريق الجعد، قال: مر بنا أنس بن مالك... فذكر نحوه. وأخرجه البيهقي من طريق أبي عبد الصمد العَميِّ نحوه، وقال: مسجد بني رفاعة. وقال: فجاء أنس في نحو عشرين من فتيانه. انتهى.
          واختلف العلماء في الجماعة بعد الجماعة في المسجد، فرُوي عن ابن مسعود أنه صلى بعلقمة والأسود في مسجد قد جمع فيه، وهو قول عطاء والحسن في رواية، وإليه ذهب أحمد وإسحاق وأشهب عملًا بظاهر قوله ◙: ((صلاة الجماعة تفضل على صلاة الفذ...)) الحديث. وقالت طائفة: لا يجمع في مسجد جمع فيه مرتين، رُوي ذلك عن سالم والقاسم وأبي قِلابة، وهو قول مالك والليث وابن المبارك والثوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي.
          وقال بعضهم: إنما يُكره ذلك خشية افتراق الكلمة، وأنَّ أهل البدع يتطرقون إلى مخالفة الجماعة. وقال مالك والشافعي: إذا كان المسجد على طريق الإمام له أن يجمع فيه قوم بعد قوم.
          قال العيني: وحاصل مذهب الشافعي أنه لا يكره في المسجد المطروق، وكذا / غيره إن بعُدَ مكان الإمام ولم يخف فيه.


[1] قوله: «ووصل» ليست في الأصل والصواب إثباتها.
[2] في العمدة: «يبتغون».
[3] في التوضيح والعمدة: «شعبان».