مصابيح الجامع الصحيح

باب سجود المسلمين مع المشركين

          ░5▒ (عَلَى وُضُوءٍ) في بَعْضها: (على غير وضوء)، والصَّوابُ: إثبات غير؛ لأنَّ المَعْروف عن ابن عمرَ أنَّه كان يَسْجد على غيرِ الوضوءِ.
          قال سعيد بن جُبَيْر: كان ابن عمر ينزل عن راحلته فيريق الماء، ثمَّ يركب فيقرأ (السَّجْدَة) فيسجد وما يتوضَّأ، وذهب معها الأمصار إلى أنَّه لا يجوز سجود التِّلاوة إلَّا على وضوء.
          ابن بطَّال: إن أراد البخاريُّ الاحتجاج على قول ابن عمر بسجود المشركين؛ فلا حجَّة فيه؛ لأنَّ سجودهم لم يكن على وجهِ العبادة لله تعالى، وإنَّما كان لما ألقى الشَّيطان على لسانه ◙: (تلك الغرانيق العُلى وإنَّ شفاعتهم ترتجى) بعد قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالعُزَّى. وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} [النَّجم:19-20] فسجدوا لما سمعوا من تَعْظيم آلهتهم، فلمَّا علم ◙ مَا أُلقِيَ على لسانه؛ حَزِنَ له، فأنزل الله تَسْليةً عمَّا عرض له: {وَمَا أَرْسَلْنَا} الآية [الحج:52].
          أي: إذا تلى ألقى الشَّيطان في تلاوته، فلا يُسْتنبط من سجودهم جواز السُّجود على غير الوضوء؛ لأنَّ المشرك نَجَس لا يصحُّ له السُّجود ولا الوضوء إلَّا بعد عَقْد الإسلام، وإن أراد الرَّدَّ على ابن عمر بقوله: (والمشرك نَجِسٌ ليس له وضوء)، فهو أشبه بالصَّواب. /
          إن قلتَ: من أين عَلم الرَّاوي أنَّ الجنَّ سَجدوا؛ قلتُ: إمَّا بإخبار الرَّسول ◙، أو بإزالة الله تعالى الحجابَ.
          إن قلتَ: لفظ: (الإنس) مكرَّر، بل لفظ (الجنِّ) أيضًا؛ قلتُ: هو إجمال بعد تفصيل، نحو: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة:196].
          وقال البرماويُّ: أو تفصيلٌ بعد إجمال؛ لأنَّ كلًّا من المسلمين والمشركين شاملٌ للإنس والجنِّ، انتهى.
          إن قلتَ: لم سجد المشركون وهم لا يعتقدون القرآن؛ قلتُ: قيل: لأنَّهم سمعوا أسماء أصنامهم حيث قال: {أَفَرَأَيْتُمُ اللَّات والعزَّى} [النَّجم:20].
          القاضي عيَاض: كان سبب سجودهم فيما قال ابن مَسْعود: أنَّها أوَّل سجدة نزلت، وأمَّا ما يرويه الإخباريُّون أنَّ سببه ما جرى على لسانه ◙ من الثَّناء على الأصنام بقوله: تلك الغرانيق؛ فباطلٌ، لا يصحُّ لا نقلًا ولا عقلًا؛ لأنَّ مدح إلهٍ غيرَ الله كفرٌ ولا يصحُّ نسبةَ ذلك إلى رسول الله صلعم، ولا أن يقوله الشَّيطان بلسانه، حاشاه منه.
          أقول: وهذا هو الحقُّ الصَّواب.