إنعام المنعم الباري بشرح ثلاثيات البخاري

حديث: صلوا على صاحبكم

          7- قولُهُ: (حَدَّثَنَا المَكِّيُّ) بنُ إبراهيمَ بن بشيرِ بن فرقدٍ البلخيًّ.
          وهذا الحديثُ سابعُ الثُّلاثياتِ.
          أخرجَهُ البُخاريُّ في الرُّبعِ الأوَّلِ من الجُّزءِ التَّاسِعِ في «كتابِ الحوالَةِ» بابُ إذا أحالَ دينَ الميِّتِ على رجلٍ جازَ.
          قَالَ: (حَدَّثَنَا يَزِيْدُ بْنُ أبي عُبَيْدٍ) بالتَّصغيرِ مولى سلمةَ بنِ الأكوعِ (عن سلمةَ بن الأكوعِ) واسمُهُ سنانُ المدنيُّ، شَهِدَ بيعةَ الرُّضوانِ (☺) أنَّهُ (قَالَ: كُنَّا جُلُوْسَاً عِنْدَ النَّبِيِّ صلعم إِذْ أُتِيَ) بضمِّ الهمزةِ مبنيَّاً للمفعولِ (بِجَنَازَةٍ، فَقَالُوْا: صَلِّ عَلَيْهَا يَا رَسُوْلَ اللهِ) ولم أقفْ على اسمِ صاحبِ الجَّنازَةِ ولا على الذي بعدَهُ.
          وفي حديثِ جابرٍ عندَ الحاكِمِ: <مَاتَ رَجُلٌ، فَغَسَّلْنَاهُ وَكَفَّنَّاهُ وَحَنَّطْنَاهُ، وَوَضَعْنَاهُ حَيْثُ تُوضَعُ الجَّنَازَةُ عِنْدَ مَقَامِ جِبْرِيْلَ؛ ثُمَّ آذَنَّا رَسُوْلَ اللهِ صلعم بِهِ>.
          قولُهُ: (فَقَالَ هَلْ عَلِيْهِ) أي على الميِّتِ (دَيْنٌ) كما في حديثِ أبي هريرةَ: أَنَّ رسولَ اللهِ صلعم كانَ قبلَ أن تُفتحَ عليهِ الفتوحُ يُؤتى بالرَّجِلِ المُتوفَّى، عليهِ الدَّينُ فيسألُ هل تركَ لدينِهِ قضاءً، فإنْ حُدِّثَ أنَّهَ تركَ لدينِهِ وفاءً صلَّى عليهِ، وإلا قالَ للمسلمين: <صَلُّوْا عَلَى صَاحِبِكُمْ>.
          قالَ القسطلانيُّ: لا يُصلي هو عليهِ تحذيراً عن الدَّينِ والزَّجرَ عن المماطلَةِ، ثمَّ صارَ يُصلِّي على كلِّ جنازةٍ حضرَها ويلتزمُ بالدَّينِ.
          قالَ ابنُ حجرٍ: وَبَيَّنَ فيهِ أنَّهُ تركَ ذلكَ بعدَ أنْ فتحَ اللهُ عليهِ الفتوحَ، قالُوا: لا دينَ عليهِ، قالَ: فهلْ تركَ شيئاً؛ قالُوا: لا، أي لم يتركْ شيئاً من الأموالِ فصلَّى عليهِ، زادَهُ اللهُ شرفاً لديهِ، ثم أُتِيَ بجنازةٍ أُخرى، ذكرَ في الحديثِ أحوالَ ثلاثةٍ وتركَ حال رابعٍ:
          الأولُ: لم يتركْ مالاً، وليسَ عليهِ دَيْنٌ.
          والثَّاني: عليهِ دَيْنٌ ولهُ وفاءٌ.
          والثَّالِثُ: عليهِ دينٌ ولا وفاءَ لهُ.
          والرَّابِعُ: مَنْ لا دينَ عليهِ وله مالٌ، وهذا حكمُهُ أن يُصَلَّى عليهِ أيضاً، وكأنَّهُ لم يُذْكَرْ لا لكونِهِ لم يقعْ بل لكونِهِ كانَ كثيراً.
          قولُهُ: (فَقَالُوْا يَا رَسُوْلَ اللهِ صَلِّي عَلَيْهِ) قالَ ╕: (هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ قِيْلَ: نَعَمْ، عَلَيْهِ دَيْنٌ، قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شيئاً لِدَيْنِهِ؟ قَالُوْا ثَلاثَةُ دَنَانِيْرَ) أي تركَ ثلاثةَ دنانيرَ، في حديثِ جابرٍ عندَ الحاكِمِ: ديناران، وأخرجَهُ أبو داودَ من وجهٍ آخرَ عن جابرٍ نحوَهُ، وكذلكَ أخرجَهُ الطَّبرانِيُّ من حديثِ أسماءَ بنتِ يزيدَ.
          ويُجمعُ بينَهما بأنَّهما كانَا دينارين وشَطراً، فمَنْ قالَ ثلاثةٌ، جَبَرَ الكسرَ، ومن قالَ دينارانِ، ألغاهُ أو كانَ أصلُهما ثلاثةً فوفىَّ قبلَ موتِهِ ديناراً وبقي عليهِ ديناران. فمن قالَ ثلاثةً فباعتبارِ الأصلِ، ومن قالَ ديناران، فباعتبارِ ما بقيَ من الدَّينِ والأوُّلُ أليقُ، ووقعَ عندَ ابنِ ماجه من حديثِ أبي قتادةَ: ثمانيةَ عشرَ درهماً، وهذا دونَ دينارين؛ وفي ((مُختصرِ المُزنيِّ)) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدرِيِّ: درهمين، ويُجْمَعُ إن ثبتَ بالتَّعدُّدِ.
          قولُهُ: (فَصَلَّى عَلَيْهَا) ولعلَّهُ صلعم عَلِمَ أنَّ هذهِ الثَّلاثةَ دنانيرَ تفي بدينِهِ بقرائنِ الحالِ أو بغيرها.
          (ثُمَّ أُتِيَ بِالجَّنَازَةِ الثَّالِثَةِ، فَقَالُوْا: صَلِّ عَلَيْهَا يَا رَسُوْلَ اللهِ، قَالَ: هَلْ تَرَكَ المَيِّتُ شَيْئَاً، قَالُوْا: لا، قَالَ: فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟ / قَالُوْا: نَعَمْ ثَلاثَةُ دَنَانِيْرَ، قَالَ: صَلُّوْا عَلَى صَاحِبِكُمْ، فَقَالَ أَبو قَتَادَةَ) الحَارِثُ بْنُ رِبعي الأنصاريُّ (صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسُوْلَ اللهِ، وَعَلَيَّ دَيْنُهُ فَصَلَّى عَلَيْهِ).
          وفي روايةِ ابنِ ماجَةَ من حديثِ أبي قتادةَ نفسِهِ: فقالَ أبو قتادةَ: وَأنا أتكفَّلُ بهِ، زادَ الحاكِمُ في حديثِ جابرٍ: فقالَ: هُما عليكَ وفي مالِكَ والميِّتُ منهُما بريءٌ، قالَ: نعم فصلَّى عليهِ، فجعلَ رسولُ اللهِ صلعم إذا لَقِيَ أبا قتادةَ يقولُ: ما صنعتِ الديناران؟ حتَّى كانَ آخرَ ذلكَ أن قالَ: قد قَضَيْتُهُمَا يا رسولَ اللهِ، قالَ: الآنَ حينَ بَرَّدْتَ جِلْدَهُ.
          وقد وقعتْ هذهِ القصَّةُ مرَّةً أخرى: فروى الدَّارَقطنيُّ من حديثِ عليٍّ: كانَ رسولُ اللهِ صلعم إِذَا أَتِيَ بجنازةٍ لم يسألْ عن شيءٍ من عملِ الرَّجُلِ، ويسألُ عن دَيْنِهِ، فإنْ قيلَ: عليهِ دينٌ كَفَّ عنهُ، وإنْ قيلَ: ليسَ عليهِ دَيْنٌ صَلَّى، فأُتِيَ بجنازةٍ فلمَّا قامَ ليُكَبِّرَ سألَ: هلْ عليهِ دينٌ، فقالُوا دينارانِ؛ فعدلَ عنهُ. فقالَ عليٌّ: هما عليَّ يا رسولَ اللهِ وهو منهُما بريءٌ، فصلَّى عليهِ، ثم قالَ لعليٍّ: جزاكَ اللهُ خيراً، وفَكَّ اللهُ رِهَانَكَ. الحديث.
          قالَ ابنُ بَطَّالٍ: ذهبَ الجُّمهورُ إلى صحَّةِ هذهِ الكفالَةِ ولا رجوعَ لهُ في مالِ الميِّتِ، وعن مالكٍ: للضَّامِنِ أن يرجعَ إن قالَ: إنَّما ضمنْتُ لأرجعَ، فإذا لم يكنْ للميِّتِ مالٌ وعَلِمَ الضَّامِنُ بذلكَ فلا رجوعَ لهُ، وعن أبي حنيفةَ أنَّهُ إنْ تركَ الميِّتُ وفاءً جازَ الضَّمانُ بقدرِ ما تركَ، وإن لم يتركْ وفاءً لم يصحَّ ذلكَ، وهذا الحديثُ حجَّةٌ للجُّمهورِ.
          وفي هذا الحديثِ إشعارٌ بصعوبَةِ أمرِ الدَّيْنِ وأنَّهُ لاينبغي تحمُّلُهُ إلا من ضرورةٍ، وسيأتي الكلامُ على الحكمَةِ في تركِهِ صلعم عليه وسلم الصَّلاةَ على مَنْ عليهِ دَيْنٌ في أوَّلِ الأمرِ عندَ الكلامِ على حديثِ أبي هريرةَ إن شاء الله.
          وفي الحديثِ وجوبُ الصَّلاةِ على الجَّنازَةِ.
          قالَ القسطلانِيُّ: وصلاتُهُ ╕ عليهِ وإنْ كانَ الدَّينُ باقياً في ذمَّةِ الميِّتِ؛ لكونِ صاحبِ الحَقِّ عادَ إلى الرَّجاءِ بعدَ اليأسِ واطَّمأنَّ بأنَّ دَيْنَهُ صارَ في مأمنٍ فخفَّ سَخَطُهُ وقَرُبَ من الرِّضَى.
          قالَ ابنُ بَطَّالٍ: ترجمَ بالحوالةِ، فقالَ: إِنْ أحالَ دَيْنَ الميِّتِ، ثم أدخلَ حديثَ سلمَةَ وهو في الضَّمانِ؛ لأنَّ الضَّمانَ والحوالَةَ متقاربانِ ينتظمانِ في كونِ كُلٍّ منهُما نقلُ ذِمَّةِ رَجُلٍ إلى ذِمَّةِ آخرَ، والضَّمانُ في الحديثِ نقلُ ما في ذِمَّةِ الميِّتِ إلى ذِمَّةِ الضَّامِنِ فصارَ كالحوالَةِ، واللهُ أعلمُ. [خ¦2289]