إنعام المنعم الباري بشرح ثلاثيات البخاري

حديث: من ضحى منكم فلا يصبحن بعد ثالثة وفي بيته منه شيء

          18- قولُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُوْ عَاصِمٍ) الضَّحاكُ بنُ مخلدٍ النَّبيلُ (عَنْ يَزِيْدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ) بضمِّ العينِ (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ).
          وهذا الحديثُ من ثلاثياتِ الإمامِ.
          أخرجَهُ في الرُّبعِ الثَّاني من الجُّزءِ الثَّالثِ والعشرينَ في كتابِ الأضاحِي، بابُ ما يُؤْكَلُ من لحومِ الأضاحِي وما يتزوَّدُ مِنْهَا.
          قولُهُ: (أَنَّهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلعم: مَنْ ضَحَّى مِنْكُمْ فَلا يُصْبِحَنَّ) بالصَّادِ المهملَةِ السَّاكنَةِ / والموحَّدَةِ المكسورةِ.
          قولُهُ: (بَعْدَ ثَالِثَةٍ) من اللَّيالي من وقتِ التَّضحيةِ (وَفِيْ بَيْتِهِ) ولأبي ذَرٍّ: (وَبَقِيَ في بَيْتِهِ مِنْهُ) أي: مِنَ الَّذي ضحَّى بهِ (شَيءٌ) أي من لحمِهِ.
          قولُهُ: (فَلَمَّا كَانَ العَامُ المُقْبِلُ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، نَفْعَلُ كَمَا فَعَلْنَا في العَامَ المَاضِي؟) وفي روايةٍ: (عَامَ المَاضِي) بإضافةِ الموصوفِ إلى صفتِهِ، أي من تركِ الإدِّخارِ.
          يُسْتَفَادُ منهُ أنَّ النَّهيَ كانَ سنةَ تسعٍ؛ لما دَلَّ عليهِ الذي قبلَهُ أنَّ الإذنَ كانَ في سنةِ عشرٍ.
          قالَ ابنُ المنيرِ: وجهُ قولِهِم: هل نفعلُ كما كُنَّا نفعلُ، مع أنَّ النَّهيَ يقتضي الاستمرارَ لأنَّهم فهمُوا أنَّ ذلكَ النَّهيَ وردَ على سببٍ خاصٍّ، فلمَّا احتملَ عندَهُم عمومَ النَّهيِّ أو خصوصَهُ من أجلِ السَّببِ، سألُوا فأرشدَهُم إلى أنَّهُ خاصٌّ بذلكَ العامِ من أجلِ السَّببِ المذكورِ.
          قالَ القَسطلانِيُّ: والسَّببُ الخَاصُّ هو الرَّأفَةُ، وإذا وردَ العامُّ على سببٍ خاصٍّ حاكَ في النَّفسِ من عمومِهِ وخصوصِهِ إشكالٌ، فلمَّا كانَ مظنَّةَ الاختصاصِ أعادُوا السُّؤالَ، ويشبِهُ أنْ يَستدلَّ بهذا من يقولُ أنَّ العامَّ يضعفُ عمومُهُ بالسَّببِ، فلا يبقى على أصالَتِهِ ولا ينتهى بهِ على التَّخصيصِ، ألا ترى أنَّهُم لو اعتقدُوا بقاءَ العمومِ على أصالتِهِ لما سألُوا، ولو اعتقدُوا الخصوصَ أيضاً لما سألُوا، فسؤالُهم يدلُّ على أنَّهُ ذو شأنين. وهذا اختيارُ الإمامِ الجُّوينيِّ.
          قولُهُ: (قَالَ) صلعم ، حينَ سألُوْهُ: (كُلُوْا وَأَطْعِمُوْا) بهمزةِ قطعٍ وكسرِ العينِ المهملَةِ.
          تمسَّكَ بهِ مَنْ قالَ بوجوبِ الأكلِ من الأضحيةِ ولا حُجَّةَ فيها؛ لأنَّهُ أمرٌ بعدَ حظرٍ فيكونُ للإباحَةِ.
          واستُدلَّ بهِ على أنَّ العامَّ إذا وردَ على سببٍ خاصٍّ ضَعُفَتْ دلالةُ العمومِ حتَّى لا يبقى على أصالَتِهِ، لكن لا يُقْتَصَرُ فيهِ على السَّببِ.
          وفي الكرمانيِّ: وفي الحديثِ دليلٌ على أنَّ تحريمَ إدِّخارِ لحومِ الأضاحِي كانَ لِعِلَّةٍ، فلمَّا زالتِ العلَّةُ زالَ التَّحريمُ.
          فإنْ قلتَ: فهَلْ يجبُ الأكلُ من لحمِهَا لظاهرِ الأمرِ، وهو: (كُلُوا؟) قلتُ: ظاهرُهُ حقيقةٌ في الوجوبِ إذا لم تكنْ قرينةٌ صارِفَةٌ عنهُ، وكانَ ثَمَّةَ على أنَّهُ لرفعِ الحُرمَةِ أي الإباحةُ.
          ثمَّ إِنَّ الأصوليين اختلفُوا في الأمرِ الوارِدِ بعدَ الحظرِ أهو للوجوبِ أم للإباحَةِ، ولئن سلَّمنا أنَّهُ للوجوبِ حقيقةً فالإجماعُ ها هُنا مانعٌ عن الحملِ عليها.
          قولُهُ: (وَادَّخِرُوْا) بالدَّالِ المهملَةِ المشدَّدَةِ، وأصلُهُ من ذَخَرَ بالمعجمَةِ، دخلَتْ عليها تاءُ الافتعالِ، ثمَّ أدغِمَتْ، ومنهُ قولُهُ تَعالى: {فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر:15] {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف:45] ويُؤخَذُ من الإذنِ في الإدِّخارِ الجوازُ خلافاً لمن كرهَهُ، وقد وردَ في الإدِّخارِ: <كَانَ يَدَّخِرُ لِأَهْلِهِ قُوْتَ سَنَةٍ> وفي روايةٍ: <كَانَ لَا يَدَّخِرُ لِغَدٍ> والأوَّلُ من الصحيحينِ والثَّاني في مسلمٍ، والجمعُ بينَهُما أنَّهُ لا يدَّخِرُ لنفسِهِ ويدَّخِرُ لعيالِهِ، أو أنَّ ذلكَ كانَ باختلافِ الحالِ، فيترُكُهُ عندَ حاجةِ النَّاسِ إليهِ، ويفعلُهُ عندَ عدمِ الحاجَةِ.
          قولُهُ: (فَإِنَّ ذَلِكَ العَامَ) الواقعُ فيهِ النَّهيُ (كَانَ بالنَّاسِ جَهْدٌ) بفتحِ الجِّيمِ، أي مشقَّةٌ من جَهدَ قَحْطُ السَّنَةِ.
          قولُهُ: (فَأَرَدْتُ أَنْ تُعِيْنُوْا) الفقراءَ (فيها) الضَّميرُ راجعٌ إلى المشقَّةِ مطلوبُ الجَّهدِ.
          والأمرُ في قولِهِ: (كُلُوْا وَأَطْعِمُوْا) للإباحَةِ، كذا هُنا من الإعانَةِ.
          وفي روايةِ مسلمٍ عن محمَّدِ بنِ المثنَّى عن أبي عاصمٍ: فَأَرَدْتُ / أَنْ تَقِسْمُوْا فِيْهِمْ.
          (كُلُوْا وَأَطْعِمُوْا وَادَّخِرُوْا) وقالَ القاضِي عياضٌ: الضَّميرُ في (تُعِيْنُوْا فِيْهَا) للمشقَّةِ المفهومَةِ من الجهدِ أو من الشدَّةِ أو من السَّنَةِ لأنَّها سببُ الجهدِ، وفي: تفْشُوْا(1) فيهم، أي في النَّاسِ المحتاجينَ إليها.
          قالَ في ((المشارقِ)): وروايةُ البُخاريِّ أوجَهُ، وقالَ في ((شرحِ مسلمٍ)): وروايةُ مسلمٍ أشبهُ.
          قالَ في ((الفتح)): قلتُ: قد عرفْتَ أنَّ مخرجَ الحديثِ واحدٌ، ومدارُهُ على أبي عاصمٍ، وأنَّهُ تارةً قالَ هذا وتارةً قالَ هذا، والمعنى في كلٍّ صحيحٌ فلا وجهَ للتَّرجيحِ. انتهى.
          والجمهورُ على أنَّ التَّضحيةَ سنَّةٌ مؤكَّدَةٌ. وفي وجهٍ للشَّافعيَّةِ أنَّها من فروضِ الكفايَةِ.
          وقالَ صاحبُ ((الهدايَةِ)) من الحنفيَّةِ: واجبةٌ على كلِّ مسلمٍ مقيمٍ مُوْسِرٍ في يومِ الأضحى عن نفسِهِ وعن ولدِهِ الصغيرِ.
          أما الوجوبُ فقولُ أبي حنيفةَ ومحمدٍ وزُفرَ والحسنِ وإحدى الرِّوايتين عن أبي يوسفَ.
          وقالَ الشيخُ الخليل من المالكيَّةِ: المشهورُ أنَّها سنةٌ.
          وقالَ المرداويُّ من الحنابلَةِ: وتُسَنُّ التَّضحيةُ لمسلمٍ ولو مُكاتباً بإذنِ سيِّدِهِ إلا النَّبيَّ صلعم فكانت واجبةً عليهِ.
          <وقد ضَحَّى صلعم بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ وَوَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا>.
          والأملحُ الذي يخالطُ سوادُهُ البياضَ والبياضُ أكثرُ، قيلَ: الأغبرُ، وقيلَ: الأبيضُ الخالصُ.
          ويُسَنُّ أن يقولَ عندَ الذَّبْحِ: بسمِ اللهِ واللهُ أكبرُ، اللَّهمَّ صلِّ على محمَّدٍ وعلى آلِ محمَّدٍ وصحبِهِ وسَلِّمْ، اللَّهمَّ منكَ وإليكَ، اللَّهُمَّ تقبَّلْ مِنِّي _ أو تقبَّلْ من فلانٍ _ إن كانَ ذَبَحَهُ عن غيرِهِ، واللهُ أعلمُ وعلمُهُ أحكمُ. [خ¦5569]


[1] في مشارق الأنوار: يفشوا، وفي فتح الباري: تفشوا، والله أعلم.