إنعام المنعم الباري بشرح ثلاثيات البخاري

حديث: من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار

          ♫
          هذا الحديثُ أوَّلُ ثلاثيٍّ وقعَ في البُخاريِّ، وليسَ فيهِ أعلى من الثُّلاثياتِ، وقد بلغَتْ أكثرَ من عشرينِ حديثاً، وقد أخرجَهُ البخاريُّ ☼في الرُّبعِ الثَّالثِ من الجُّزءِ الأوَّلِ في كتابِ العلمِ، في بابِ: إثمُ من كذبَ على النَّبيِّ صلعم:
          1- قولُهُ: (حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيْمَ) وفي روايةِ أَبي ذَرٍّ: «المَكِّيُّ» بالإفرادِ والتَّعريفِ؛ وفي روايةٍ أخرى بالإفرادِ والتَّنكيرِ.
          قالَ أبو عبدِ اللهِ محمدُ التَّاؤديُّ في ((حاشيتِهِ)) على البُخارِيِّ: روى هذا الحديثَ المُصَنِّفُ من حديثِ المغيرةِ في الجَّنائزِ، وابنِ عمرِو بن العاصِ في أخبارِ بني إسرائيلَ، وواثلةِ(1)بنِ الأسقعِ في مناقبِ قريشٍ.
          وصحَّ أيضاً من حديثِ أبي سعيدٍ عندَ مسلمٍ، وعثمانَ بن عفَّانَ وابنِ مسعودٍ وابنِ عمرَ وأبي قتادةَ وجابرٍ وغيرِهِم.
          وقالَ ابنُ مَنْدَهْ: رواهُ أكثرُ من ثمانينَ.
          وقالَ أبو موسى المدينيُّ: يرويهِ نحوُ مائةٍ من الصَّحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم؛ ونقلَ النَّوويُّ أنَّهُ جاءَ عن مائتين؛ ولكثرَةِ طُرُقِهِ أطلقَ عليهِ غيرُ واحدٍ أنَّهُ متواترٌ.
          وادَّعَى بعضُهم أنَّهُ لا يوجدُ مثالٌ للمُتواتِرِ غيرُهُ.
          قالَ ابنُ حجرٍ: وقد بَيَّنْتُ رَدَّهُ في ((شرحِ النُّخبة)) وأنَّ لهُ أمثلةً كثيرةً، منها حديثُ: <مَنْ بَنَى للهِ مَسْجِدَاً> والمسحُ على الخُفَّينِ، ورفعُ اليدينِ والشَّفاعَةِ والحوضُ ورؤيةُ اللهِ تعالى في الآخرَةِ، والأئمةُ من قريش، وغيرُ ذلكَ واللهُ أعلم. ونظَّمْتُ ذلكَ فقلتُ:
مِمَّا تواترَ حديثُ من كَذَبْ                     ومَنْ بنى للهِ بَيتاً واحتسَبْ
ورؤيةٌ، شفاعةٌ، والحوضُ                     ومسحُ خفَّين، وهذي بعضُ
          قولُهُ: (سَمْعْتُ النَّبِيَّ صلعم) أي حالَ كونِهِ يقولُ (مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ مَا لَمْ أَقُلْ) أي الَّذي لم أقلْهُ، فحذفَ العائدَ وهو جائزٌ، وذكرَ القولَ لأنَّهُ أكثرُ، وحكمُ الفعلِ كذلكَ لاشتراكِهِما في عِلَّةِ الامتناعِ، وقد دخلَ الفعلُ في حديثِ الزُّبيرِ وأنسٍ المذكورينِ في البُخاريِّ لتعبيرِهِمَا بلفظِ الكذِبِ عليهِ، ومثلُهما حديثُ أبي هريرةَ الذي ذكرَهُ البُخاريُّ بعدَ حديثِ سَلَمَةَ، فلا فرقَ بين أن يقولَ: قالَ رسولُ اللهِ صلعم كذا وفعلَ كذا، إذا لم يكنْ قالَهُ أو فَعَلَهُ.
          وقد تمسَّكَ بظاهرِ هذا اللَّفظِ مَنْ منعَ الرِّوايَةَ بالمعنى.
          وأجابَ المجيزون عنهُ بأنَّ المرادَ النَّهيُ عن الاتيانِ بلفظٍ يُوجِبُ تغييرَ الحكمِ، مع أنَّ الإتيانَ باللَّفظِ لا شكَّ في أولويَّتِهِ.
          قالَ القَسطلانيُّ: وكذا لو نقلَ ما قالَهُ بلفظٍ يُوجِبُ تغييرَ الحكمِ أو نسبَ إليهِ فعلاً لم يَرِدْ عنهُ. /
          قولُهُ: (فَلْيَتَبَوَّأ) جوابُ الشَّرطِ السَّابِقِ، بكسرِ اللامِ على الأصلِ وسكونِها على المشهورِ. و«مَن» موصولٌ مضمَّنٌ بمعنى الشَّرطِ، وتاليهِ صِلَتُهُ، و «فاءُ» ليتبوأ، جوابُ الشَّرطِ؛ وهو أمرٌ من التَّبوُّءِ بمعنى الإتِّخاذ، أي فليتَّخِذْ.
          قولُهُ: (مْقِعَدَهُ مْنَ النَّارِ) فيها، والأمرُ هُنا معناهُ الخبرُ، أي أنَّ اللهَ تعالى يُبَوِّئُهُ مقعدَهُ مِنَ النَّارِ، أو أمرٌ على سبيلِ التَّهكُّمِ(2) والتَّغليظِ، أو أمرُ تهديدٍ أو دعاءٍ على معنى بوَّأهُ، وذلكَ لما فيهِ من الجُّرأةِ على الشَّريعَةِ وعلى صاحِبِهَا صلعم ، نعم لو نقلَ العالِمُ معنى قولِهِ بلفظٍ غيرِ لفظِهِ؛ لكنَّهُ مطابقٌ لمعنى لفظِهِ كانَ جائزاً وسائغاً عند المحقِّقين.
          ولهذا التَّحذيرِ العظيمِ لم يُكْثِرْ بعضُ الصَّحابَةِ ♥ مِنَ التَّحديثِ عنهُ صلعم ؛ لأنَّ الإكثارَ مظنَّةُ الخطأ، والثِّقةُ إذا حدَّثَ بالخطأ فحُمِلَ عنهُ وهو لا يشعرُ أنَّهُ خطأٌ يُعْمَلُ بهِ على الدَّوامِ، للوثوقِ بنقلِهِ فيكونُ سبباً للعملِ بما لم يقلْهُ الشَّارعُ، وأمَّا من أكثرَ منهم فمحمولٌ على أنَّهم كانوا واثقينَ من أنفسِهم بالتَّثبُّتِ، أو طالت أعمارُهم فاحتيجَ إلى ما عندَهم، فسُئلوا فلم يمكنهم الكتمانُ.
          قالَ القسطلانيُّ: وفي هذا الحديثِ زيادةٌ على ما سبقَ: التَّصريحُ بالقولِ؛ لأنَّ السَّابقَ أعمُّ من نسبةِ القولِ والفعلِ إليهِ. أهـ [خ¦109]


[1] في المطبوع: (وائلة) وهو خطأ، والصواب ما أثبت.
[2] في المطبوع: (التحكم) وهو خطأ، والتصويب من كتب الشروح.