إنعام المنعم الباري بشرح ثلاثيات البخاري

حديث: بايعنا النبي تحت الشجرة فقال لي فقال لي

          21- قولُهُ: (حَدَّثَنَا أَبُوْ عَاصِمٍ) الضَّحَاكُ بن مخلدٍ النَّبيلُ (عَنْ يَزِيْدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ) بضمِّ العينِ، مولى سلمةَ بنِ الأكوعِ.
          وهذا الحديثُ الحادي والعشرونَ من الثُّلاثياتِ.
          أخرجَهُ الإمامُ في أوَّلِ الرُّبعِ الثَّالثِ من الجُّزءِ التَّاسِع والعشرينَ في كتابِ الأحكامِ، بابُ من بايَعَ مرَّتين.
          وقد تقدَّمَ هذا الحديثُ بروايَةِ مَكِّيِّ بنِ إبراهيمَ في صحيفةِ(1)، وفيهِ: <بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلعم ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ شَجَرَةٍ، فَلَمَّا خَفَّ النَّاسُ قَالَ: يَا ابْنَ الأَكْوَعِ أَلَا تُبَايِعُ>.
          قولُهُ: (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ أَنَّهُ قَالَ: بَايَعْنَا) بسكونِ العينِ (النَّبِيَّ صلعم) بيعةَ الرُّضوانِ التي (تَحْتَ الشَّجَرَةِ) التي بالحُديبيةِ، وهي التي نزلَ فيها: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} [الفتح:18] وهذهِ البيعةُ بيعةُ الرُّضوانِ.
          قولُهُ: (فَقَالَ) ╕ (لِي: يَا سَلَمَةُ أَلَا) بالتخفيفِ (تُبَايِعْ؟ قُلْتُ: يَا رَسُوْلَ اللهِ قَدْ بَايَعْتُ فِي) الزَّمَنِ (الأَوَّلِ) بفتحِ الهمزةِ وتشديدِ الواو (قَالَ) ╕ (وفي الثَّانِي) أي: وفي الزَّمنِ الثَّاني تُبايعُ أيضاً، ولأبي ذَرٍّ عن الكُشميهنيِّ في الأُولى بالتَّأنيثِ، قالَ: وفي الثَّانيَةِ، والمرادُ السَّاعَةُ أو الطَّائِفَةُ، يحتملُ أن يكونَ سببُ التَّكرارِ تقويتُهُ وتَثْبِيْتُهُ فيما لاحَ لهُ من الأمورِ العِظَامِ بعدَ ذلكَ الوقتِ، كما مرَّ ذكرُهُ، ووقعَ في روايةِ مَكِّيٍّ: (فَقُلْتُ قَدْ بَايَعْتَ يَا رَسُوْلَ اللهِ، قَالَ: وَأَيْضَاً، فَبَايَعْتُهُ الثَّانِيَةَ) وزادَ في آخرِهِ: (فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ عَلَى أَيِّ شَيءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُوْنَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: عَلَى المَوْتِ) وقد تقدَّمَ البحثُ في ذلكَ هناك.
          وقالَ المُهَلَّبُ فيما ذكرَهُ ابنُ بَطَّالٍ: أرادَ أن يُؤَكِّدَ بيعةَ سلمةَ لعلمِهِ بشجاعَتِهِ وغَنَائِهِ في الإسلامِ وشهرَتِهِ بالثَّباتِ؛ فلذلكَ أمرَهُ بتكريرِ المُبايَعَةِ.
          قلتُ: ويحتملُ أن يكونَ سلمَةُ لما بادرَ إلى المبايعَةِ ثُمَّ قعدَ قريباً، واستمرَّ النَّاسُ يُبايعونَ إلى أنْ خَفُّوْا أرادَ صلعم منهُ أنْ يُبايعَ لتتوالى المبايعَةُ معهُ، ولا يقعُ فيها تَخْلُّلٌ؛ لأنَّ العادةَ في مبدأ كُلِّ أمرٍ أن يَكْثُرَ من يُباشرُهُ فيتَوالى، فإذا تَناهى قد يقعُ من بينِ من يجئُ آخراً تَخَلُّلٌ، ولا يلزمُ من ذلكَ اختصاصُ سلمةَ بما ذُكِرَ.
          والواقعُ أنَّ الذي أشارَ إليهِ ابنُ بَطَّالٍ من حالِ سلمَةَ في الشَّجاعَةِ وغيرِهَا لم يكنْ ظهرَ بعدُ؛ لأنَّهُ إنَّما وقعَ منهُ بعدُ ذلكَ في غزوةِ ذِي قردٍ حيثُ استعادَ السَّرحَ الذي كانَ المشركونَ أغارُوا عليهِ، فاستلبَ ثيابَهم وكانَ آخرَ أمرِهِ أنْ أسهَمَ لهُ النَّبيُّ صلعم سهمَ الفارسِ والرَّاجِلِ، فالأولى أن يُقالَ: تَفَرَّسَ فيهِ النَّبيُّ صلعم ذلكَ فبايَعَهُ مرَّتين، وأشارَ بذلكَ إلى أنَّهُ سيقومُ في الحربِ مقامَ رجلين فكانَ كذلِكَ.
          وقالَ ابنُ المنيرِ: يُستفادُ من هذا الحديثِ أنَّ إعادَةَ لفظِ العقدِ في النِّكاحِ وغيرِهِ ليسَ فسخاً للعقدِ الأوَّلِ، خلافاً لمن زعمَ ذلكَ من الشَّافعيَّةِ، قالَ الحافِظُ: قلتُ الصَّحيحُ عندَهُم أنَّهُ لا يكونُ فسخاً، كما قالَ الجُّمهورُ، واللهُ أعلمُ. [خ¦7208] /


[1] هكذا في المطبوع، وهو رقم الصفحة في المطبوع.