إنعام المنعم الباري بشرح ثلاثيات البخاري

حديث: إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره

          10- قولُهُ: (حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ) هو ابنُ عبدِ اللهِ بن المثنَّى بن عبدِ اللهِ بن أنسِ بن مالكٍ، أبو النَّضرِ أو أبو عبدِ اللهِ، الفقيهُ قاضي البصرةَ.
          (قَالَ: حَدَّثَنِي حُمَيْدٌ) هو الطَّويلُ لطولِ يديهِ، كانَ لهُ جارٌ يُسمَّى حُميداً القصيرُ، فقيلَ لهذا حميدٌ الطَّويلُ ليُعْرَفَ.
          (أَنَّ أَنَساً) هو ابنُ مالكٍ، خَدَمَ رسولَ اللهِ صلعم عشرَ سنين، أكثرَ اللهُ مالَهُ وولدَهُ لِدُعَائِهِ صلعم.
          (حَدَّثَهُمْ أَنَّ الرُّبَيِّعَ) هي عمَّةُ أنسِ بن مالكٍ، أختُ أنسِ بن النَّضرِ.
          وهذا الحديثُ هو عاشرُ الثلاثيات.
          أخرجهُ الإمامُ ☼ في بابِ الصُّلحِ، في الدِّيَةِ من كتابِ الصُّلحِ في الرُّبعِ الرَّابعِ من الجزءِ العاشرِ من ((صحيحه)).
          (وَهِيَ أُخْتُ(1) النَّضْرِ، كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ) في روايةِ الفزاريِّ من الأنصارِ، وفي روايةِ معتمرٍ: <إِمْرَأَةً> بدلَ جاريةٍ، وهو يوضِّحُ أنَّ المرادَ بالجَّاريةِ المرأةُ الشَّابَّةُ لا الأمةُ الرَّقيقةُ.
          (فَطَلَبُوْا الأَرْشَ) هو بفتحِ الهمزةِ: الدِّيَةُ والخدشُ، وطلبُ الأرشِ والرَّشوةِ، والمرادُ الأوَّلَ.
          (وَطَلَبُوْا العَفْوُ فَأَبُوْا) أي طلبَ أهلُ الرُّبَيِّعِ إلى أهلِ الَّتي كُسِرَتْ ثَنِيَّتُهَا أن يعفُوا عن الكسرِ المذكورِ مجاناً أو على مالٍ، فامتنعُوا (فَأَتَوْا النَّبِيَّ صلعم فَأَمَرَهُمْ بِالقِصَاصِ) وأوردَ مسلمٌ بإسنادِهِ عن أنسٍ: فقالتْ أمُّ الرُّبَيِّعِ: يا رسولَ اللهِ أيقتَصُّ من فلانةٍ؟ واللهِ لا يُقْتَصُّ منها، فقالَ: <سبحانَ اللهِ يا أُمَّ الرُّبيِّعِ: القِصاصُ كتابُ اللهِ>. فما زالَتْ حتَّى قَبِلُوْا الدِّيةَ. /
          وفي هذا الحديثِ: (فقالَ أنسُ بن النَّضرِ: أَتُكْسَرُ ثنيَّةُ الرُّبيعِ) وهو أخو الرُّبيعِ؛ فعُلِمَ أن المقسمَ على اللهِ في هذهِ الواقعَةِ ليس هو أنساً فقط بل أُمُّهُ أيضاً؛ أُمُّ الرُّبيعِ أقسمَتْ على اللهِ فأبرَّ اللهُ قَسَمَهَا، كما أبرَّ قسمَ أنسٍ ابنها.
          (يَا رَسُوْلَ اللهِ، لا وَاللهِ لا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا) قولُ أنسِ بن النَّضرِ أو أمُّهُ أمُّ الرُّبيِّعِ على وفقِ روايةِ مسلمٍ المشارِ إليها فيما تقدَّمَ، كانَ على سبيلِ الطَّمعِ في ⌂، والرَّجاءِ من فضلِهِ أن يُلْهِمَ الخصومَ الرِّضاءَ حتى يعفوا أو يقبلُوا الأرشَ، وبهذا جزمَ الطَّيْبِيُّ فقالَ: لم يقلْهُ ردَّاً للحكمِ بل نفى وقوعَهُ؛ لما كانَ لهُ عندَ اللهِ من اللُّطفِ بهِ في أمورِهِ، والثِّقةِ بفضلِهِ أن لا يُخَيِّبَهُ فيما حلفَ بهِ، وقد وقعَ الأمرُ على ما أرادَ.
          (فَقَالَ صلعم: كِتَابُ اللهِ القِصَاصُ) أي أوضحَ عليهِ أمرَ الشَّريعَةِ، وأكدَّ الأمرَ عليهِ في ذلكَ من غيرِ مراعاةٍ لقولِهِمَا وإقسامِهِمَا على اللهِ تعالى، حتى لا ييأسَ أهلُ الجَّاريةِ من أن يأخذُوا حقَّهُم من الاقتصاصِ، فرضيَ القومُ وعَفواً لما علمُوا أنَّهُ ليسَ هناكَ مراعاةٌ لأحدٍ، بل أخذُ الحقِّ بالقِصاصِ مُتَيَسِّرٌ، فوقعَ في قُلوبِهم أنَّ العفوَ عن الاقتصاصِ أفضلُ الأمرين؛ والأخذُ بالعزيمةِ أحسنُ في الدُّنيا والآخرةِ وأكثرُ أجراً، (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ _ زادَ معتمرٌ: فَعَجِبَ النَّبِيُّ صلعم: وَقَالَ: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ _ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لأَبَرَّهُ) ووقعَ في روايةِ خالدٍ الطَّحانُ عن حميدٍ عن أنسٍ في هذا الحديثِ عندَ ابن أبي عاصمٍ: <كَمْ مِنْ رَجُلٍ لَوْ> الخ.
          ووجهُ تعجُّبِهِ صلعم أنَّ أنسَ بنَ النَّضرِ أقسمَ على نفي فعلِ غيره مع إصرارِ ذلكَ الغيرِ على إيقاعِ ذلكَ الفعلِ، فكانَ قضيِّةُ ذلكَ في العادَةِ أن يحنثَ في يمينِهِ؛ فألهمَ اللهُ الغيرَ العفوَ فبُرَّ قسمُ أنسٍ، وأشارَ بقولِهِ: <إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ> إلى أنَّ هذا الاتِّفاقَ إنَّما وقعَ إكراماً من اللهِ لأنسٍ ليبرَّ يمينُهُ، وأنَّهُ من جملةِ عبادِ اللهِ الَّذينَ يُجيبُ دُعاءَهُم ويُعطيهم أربَهم.
          وفي هذا الحديثِ جوازُ الحلفِ فيما يظنُّ وقوعَهُ والثَّناءُ على من وقعَ لهُ ذلكَ عندَ أَمْنِ الفتنَةِ بذلكَ عليهِ، واستحبابِ العفوِ عن القِصاصِ، والشَّفاعَةُ في العفوِ، وأنَّ الخِيَرَةَ في القِصاصِ والدِّيَةَ للمُستَحِقِّ على المستَحَقِّ عليهِ، وإثباتُ القِصاصِ بين النِّساءِ في الجِّراحاتِ وفي الأَسنانِ، وفيهِ الصُّلحُ على الدِّيَةِ، وجريانُ القِصاصِ في كسرِ السِّنِّ، ومحلُّهُ فيما إذا أمكنَ التَّماثُلُ؛ بأن يكونَ المكسورُ مضبوطاً فيردُّ من سنِّ الجَّاني ما يُقابِلُ بالمبرَدِ مثلاً.
          قالَ أبو داودَ في ((السُّننِ)): قلتُ لأحمدَ كيفَ؟ فقالَ: يُبْرَدُ.
          ومنهم من حملَ الكَسْرَ في هذا الحديثِ على القلعِ، وهو بعيدٌ من هذا السِّياقِ.
          (زَادَ الفَزَارِيُّ عَنْ حُمَيْدٍ عَنْ أَنَسٍ) أي على روايةِ الأنصاريِّ ذِكْرَ قُبولِهم الأرشَ.
          والفَزَارِيُّ هو مروانُ بن معاويةَ لا أبو إسحاقَ.
          ولما كانَ ظاهرُ ما وقعَ في روايةِ الأنصاريِّ: فَرَضِيَ القومُ وعفَوا، أنَّهم تركُوا القِصاصَ والأرشَ مُطلقاً، أشارَ المصنِّفُ إلى الجَّمعِ بينَهُما بأنَّ قولَهُ: (عَفَوْا) محمولٌ على أنَّهم عفوا من القِصَاصِ لا على قبولِ الأرشِ جمعاً بين الروايتين.
          وطريقُ الفزاريِّ هذهِ وصلَها الإمامُ ☼ في تفسيرِ سورَةِ المائدةِ، واللهُ أعلمُ. [خ¦2703] /


[1] هي هكذا في هذا الموضع من المطبوع، وفي الحديث: (بنت) كما في متن المطبوع أيضاً.