الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري

باب اللعان

          ░25▒ (بَابُ اللِّعَانِ) وهو أن يقول الزوج أربع مرات: أشهد بالله إني لمن الصادقين فيما قذفتُها به من الزنا، وفي المرَّة الخامسة: لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين فيه. والزوجة أربعاً: أشهد بالله إنه لمن الكاذبين فيما قذفني به، وفي الخامسة: غضب الله عليها إن كان من الصادقين، وسُمِّي لعاناً لقوله: لعنة الله، أو لأنَّ اللعن هو الإبعاد، وكل من الزوجين يبعد عن صاحبه ويحرِّم النكاح بينهما.
          قوله : بكتاب أو: (كِتَابَةٍ)، فإن قلت: ما الفرق بين الإشارة والإيماء؟ قلت: المتبادر إلى الذهن في الاستعمال أنَّ (الإِشَارَةَ) باليد والإيماءَ بالرأس أو الجفن ونحوه، ووصفه بالمعروف اشتراطاً لكونه مفهوماً معلوماً، أو أراد به ما هو معهود منه، أو كأنَّه أراد الصريح من الإشارة، وهو ما يُفهم الكلَّ لا الكناية منه وهو ما يفهمه الفطن. و(الفَرَائِضِ) كما في الصلاة فإنَّ العاجز عن غير الإشارة يصلي بالإشارة، فإن قلت: تعريف اللِّعان بالقول المخصوص ينافي كونه بالإشارة. قلت: الإشارة المفهمة تقوم مقامه.
          قوله: (الضَّحَّاكُ) هو ابن شراحيل بفتح المعجمة وخفة الرَّاء وكسر المهملة، الهمذاني التابعي المفسِّر.
          قال ابن بطال: احتجَّ البخاري بقوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} [مريم:29] على صحته إذ عرفوا من إشارتها ما يعرفونه من نطقها، وبقوله تعالى: {آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ (إِلَّا رَمْزًا)} [آل عمران:41] أي: (إِشَارَةً)، ولولا أنه يفهم منها ما يفهم من الكلام لم يقل تعالى: لا تكلمهم إلا رمزاً، فجعل الرمز كلاماً.
          قال المهلب: وقد تكون الإشارة في كثير من أبواب الفقه أقوى من الكلام مثل حديث: ((بُعثت أنا والساعة كهاتين)) ومتى يبلغ البيان إلى ما بلغت الإشارة إليه بما بينهما من مقدار زيادة الوسطى على السبابة.
          قوله: (بَعْضُ النَّاسِ) يريد به الحنفية حيث قالوا: (لَا حَدَّ) على الأخرس إذ لا اعتبار لقذفه، وكذا (لَا لِعَانَ)، وقالوا: إن طلق يعتبر طلاقه، وفي بعضها: <إن طلقوا >، أي: الجماعة الخُرس يعتبر طلاقهم. قال صاحب «الهداية»: (قَذَفَ الأَخْرَسُ) لا يتعلق به اللعان؛ لأنه يتعلق بالصريح كحدِّ القذف، وقال في آخره: ولا يُحدُّ بالإشارة في القذف لانعدام القذف صريحاً. وقال: وطلاق الأخرس واقع بالإشارة لأنها صارت معهودة، فأُقيمت مقام العبارة دفعاً للحاجة.
          وغرض البخاري: أنهم تحكموا حيث قالوا: لا اعتبار لقذف الأخرس، واعتبروا طلاقه، فهو (فَرْقٌ) بدون الافتراق، وتخصيص بلا اختصاص.
          قوله: (وَإِلَّا بَطَلَ) أي: إن لم يقولوا بالفرق فلا بدَّ من بطلان طلاق كليهما لا بطلان (القَذْفُ) فقط، (وَكَذَلِكَ العِتْقُ) أيضاً حكمُه حكم القذف، فيجب أيضاً أن تبطل إشارته بالعتق، ولكنهم قالوا بصحة عتقه.
          قوله: (الشَّعْبِيُّ) بفتح المعجمة وإسكان المهملة، عامر. / و(إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ) بِإِشارته يعني أشار بيده مثلاً، وفي بعضها: <إِذَا قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَأَشَارَ> بأصابعه.
          فإن قلت: كيف يتصور للأخرس أن يقول ذلك؟ قلت: أراد بقوله: القول باليد، أي: إشارته، فلفظ (أَشَارَ بِأَصَابِعِهِ) تفسير لقوله: قال أنت طالق، يعني إذا أشار بفتح المعجمة مريداً أنه طلقها تصير بائنة بذلك، ويحتمل أن يريد به الناطق لا الأخرس، ويكون معناه: إذا قال المتكلم: أنت طالق وأشار بالأصبع إلى عدد الطلقات الثلاث (تَبِينُ مِنْهُ) المباينة الكبرى بمقتضى الإشارة.
          قال ابن بطال: اختلفوا في لعان الأخرس، فقال الكوفيون: لا يصحُّ قذفه ولا لعانه، فإذا قذف امرأته بإشارته لم يُحدَّ ولم يلاعن، وقالوا: يلزم الأخرس الطلاق والبيع. وقال أبو حنيفة : إن كانت إشارته تُعرف في طلاقه ونكاحه وبيعه وكان ذلك منه معروفاً فهو جائز عليه، وليس ذلك بقياس وإنما هو استحسان، والقياس في هذا كله: أنَّه باطل. فقال ابن بطال: في ذلك إقرار منه أنه حكم بالباطل لأن القياس عنده حقٌّ، فإذا حكم بضدِّه وهو الاستحسان فقد حكم بضدِّ الحقِّ، ودفعَ القياس الذي هو حق، قال: وأظن أن البخاري حاول بهذا الباب الرد عليه لأنه صلعم حكم بالإشارة في هذه الأحاديث وجعل ذلك شرعاً لأمته.