التلويح شرح الجامع الصحيح

حديث: صليت مع رسول الله بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر

          1084-حدَّثنا قُتَيْبَةُ: حدَّثنا عَبْدُ الوَاحِدِ، عَنِ الأَعْمَشِ: حدَّثنا إِبْرَاهِيمُ، سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ / بْنَ يَزِيدَ، يَقُولُ: صَلَّى بِنَا عُثْمَانُ بِمِنًى أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ، فَقِيلَ ذَلِكَ لابْنِ مَسْعُودٍ، فَاسْتَرْجَعَ، ثُمَّ قَالَ: «صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ أَبِي بَكْر بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ، وَصَلَّيْتُ مَعَ عُمَرَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ»، فَلَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ.
          وعند ابن أبي شيبة: حدَّثنا وكيع: حدَّثنا سفيان وابن أبي ليلى، عن عون بن أبي جُحَيفة، عن أبيه قال: «صلَّيت مع النبي صلعم بمنًى الظهرَ ركعتين حتى رجع إلى المدينة».
          وحدَّثنا وكيع: حدَّثنا حنظلة، قال: سألت [القاسم وسالمًا وطاوسًا] عن الصلاة بمنًى فقالوا: قَصْرٌ.
          وفي لفظ: أهل مكة إذا خرجوا إلى منى قصروا.
          قال ابن بطال: اتَّفق العلماء على أن الحاجَّ القادم مكَّة _شرَّفها الله تعالى_ يقصُر الصلاة بها وبمنًى وسائر المشاهد؛ لأنه عندهم في سفر؛ لأنَّ مكة ليست دارَ إقامةٍ إلا لأهلها أو لمن أراد الإقامة بها، وكان المهاجرون قد فُرِضَ عليهم ترك المقام بها، فلذلك لم ينوِ رسولُ الله صلعم الإقامة بها ولا بمنًى.
          قال: واختلف العلماء في صلاة المكيِّ بمنًى، فقال مالك: يتمُّ بمكة ويقصر بمنًى، وكذلك أهل منًى يتمون بمنًى، ويقصرون بمكة وعرفات.
          قال: وهذه المواضع مخصوصة بذلك؛ لأنَّ النبي صلعم لما قصر بعرفة لم يُميِّز مَنْ وراءه، ولا قال: يا أهل مكة أتموا، وهذا موضع بيان، ولذلك قال عمر بعده لأهل مكة: يا أهل مكة أتموا صلاتكم فإنا قوم سَفْرٌ.
          قال: وممَّن روي عنه أن المكي يقصر بمنًى: طاوس والأوزاعي وإسحاق، قالوا: القصر سُنَّةُ الموضع، وإنما يتمُّ بمكة ومنًى من كان مقيمًا بهما، ولو لم يجز لأهل مكة القصر بمنًى لقال حارثة الذي داره بمكة وأخو عبيد الله بن عمر بن الخطاب لأمِّه: وأتممنا نحن. أو قال: قال لنا النبيُّ صلعم: أتموا؛ لأنه يلزمه صلعم البيان لأمته.
          وقالوا: لأن عمل الحاج لا ينقضي في أقل من يوم وليلة، مع الانتقال اللازم والمشي من موضع إلى موضع لا يجوز الإخلال به، فجرى ذلك مجرى الشيء اللازم.
          والثاني: أن من مكة إلى عرفة ثم الرجوع إلى مكة بمقدار ما تقصر فيه الصلاة، ويلزمه بالدخول فيه، فيلزمه القصر، ولا / يلزم على هذا مَن يخرج مِن سفر بضعًا وعشرين ميلًا؛ لأن رجوعه هناك ليس لازمًا، ورجوعه إلى مكة في الحجِّ لازم.
          وقال أكثر أهل العلم _منهم: عطاء، والزهري، وهو قول الثوري، والكوفيين أبي حنيفة وأصحابه، والشافعي، وأحمد، وأبي ثور_: لا يقصر الصلاة [أهل مكة] بمنًى وعرفات؛ لأنه ليس بينهما مسافة القصر، قالوا: وفي قول عمر بن الخطاب لأهل مكة: «أتموا صلاتكم» ما أغنى أن يقول ذلك بمنًى.
          وقال الطحاوي: ليس الحج موجبًا للقصر؛ لأن أهل منًى وعرفات إذا كانوا حُجَّاجًا أتمُّوا، وليس هو بمُتعلّقٍ بالموضع؛ بل هو متعلقٌ بالسفر، وأهل مكة _شرَّفها الله تعالى_ مقيمون هناك لا يقصرون، ولما كان المعتمر لا يقصر إن خرج إلى منًى فكذلك الحاج.
          واختلفوا في المسافة التي تقصر فيها الصلاة؛ فقال أبو حنيفة وأصحابه والكوفيون: المسافة التي تقصر فيها الصلاة ثلاثةُ أيام ولياليهن بسَيْر الإبل ومشي الأقدام.
          وقال أبو يوسف: يومان وأكثر الثالث، وهي رواية الحسن عن أبي حنيفة، ورواية ابن سَمَاعَة عن محمد، ولم يريدوا بها السير ليلًا ونهارًا؛ لأنهم جعلوا النهار للسير، والليل للاستراحة، فلو سلك طريقًا هي مسيرة ثلاثة أيام، وأمكنه أن يصل إليها في يومٍ من طريق أخرى، قصر.
          ثم قدَّروا ذلك بالفراسخ، فقيل: أحد وعشرون فرسخًا، وقيل: ثمانية عشر، وعليه الفتوى، وقيل: خمسة عشر فرسخًا.
          وإلى الثلاثة الأيام ذهب عثمان بن عفان، وابن مسعود، وسويد بن غَفَلَة، والشعبي والنخعي، والثوري، وابن حَيٍّ، وأبو قِلابة، وشريك بن عبد الله، وسعيد بن جبير، ومحمد بن سيرين، ورواية عن عبد الله بن عمر.
          وعن مالك: لا يقصر في أقل من ثمانية وأربعين ميلًا بالهاشمي، وذلك ستة عشر فرسخًا، وهو قول أحمد.
          والفرسخ: ثلاثة أميال، والميل: ستة آلاف ذراع، والذراع: أربع وعشرون أصبعًا معترضةً معتدلةً. والأصبع: ستُّ شعيرات معترضات معتدلات.
          وذلك يومان، وهو أربعة بُردٍ، هذا هو المشهور عنه، كأنه احتج بما رواه الدارقطني من حديث عبد الوهاب بن مجاهد _وهو ضعيف، ومنهم من يكذبه_ عن أبيه وعطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس: قال رسول الله صلعم / : «يا أهل مكة، لا تقصروا الصلاة في أدنى من أربعة بُرُد من مكة إلى عُسْفان».
          وقال البيهقي: الصحيح أنه من قول ابن عباس.
          وعنه أيضًا: خمسة وأربعون ميلًا، وعنه: اثنان وأربعون ميلًا، وعنه: أربعون ميلًا، وروي: ستة وثلاثون ميلًا.
          قال ابن حزم: ذكر هذه الروايات عنه إسماعيل القاضي، قال: ورأى لأهل مكة خاصة القصر إلى منًى فما فوقها وهي أربعة أميال.
          وللشافعي سبعة نصوص في المسافة التي تقصر فيها الصلاة: ثمانية وأربعون ميلًا، ستة وأربعون، أكثر من أربعين، أربعون، يومان، ليلتان، يوم وليلة، وهذا الآخر قال به الأوزاعي.
          قال أبو عمر: قال الأوزاعي: عامة العلماء يقولون به.
          قال أبو عمر: وعن داود: يقصر في طويل السفر وقصيره.
          زاد ابن حامد: حتى لو خرج إلى بستان له خارج البلد قصر.
          وفي «المحلى» أثر حذيفة: «ألا تقصر في نيف وستين ميلًا».
          وعن شقيق بن سلمة، فيما ذكره أبو داود _وسئل عن قصر الصلاة من الكوفة إلى واسط_ فقال: «لا تقصر الصلاة في ذلك». وبينهما مئة وخمسون ميلًا.
          وعن ابن عمر: تقدير مئة ميل إلا أربعة أميال.
          وعن إسحاق بن حيٍّ: لا قصر في أقل من اثنين وثمانين ميلًا.
          وعن ابن عمر: اثنان وسبعون ميلًا.
          وعن الثوري: نحو نيفٍ وستين ميلًا، [لا] يتجاوز ثلاثة وستين ميلًا، ولا يقصر عن أحد وستين.
          وعن أبي الشَّعْثَاء: ستة أميال.
          وعن ابن المُسيَّب: بَرِيد.
          قال ابن حزم: صحَّ عن كلثوم بن هانئ، وقبيصة بن ذُؤَيب، وابن مُحَيرِيز القصر في بضعة عشر ميلًا.
          وزعم أبو محمد أنه لا يقصر عندهم في أقل من ميل، قال: ولا يجوز لنا أن نوقع اسم سفرٍ وحكم سفرٍ إلا على ما سمَّاه به من هو حجةٌ في اللغة سفرًا، فلم نجد ذلك في أقل من ميل.
          وروينا الميل أيضًا عن ابن عمر، روي عنه أنه قال: لو خرجت ميلًا لقصرت.
          قال: وعنه: إني لأسافر الساعة من النهار فأقصر، وعنه: ثلاثة أميال.
          وعن ابن مسعود أربعة. وعن دحية ثلاثة أميال.
          وفي «المصنف»: حدَّثنا هُشَيم، عن أبي هارون، عن أبي سعيد: «أن النبي صلعم / كان إذا سافر فرسخًا قصر الصلاة».
          وحدَّثنا هُشَيم، عن جُوَيبر، عن الضَّحَّاك، عن النَّزَّال: «أنَّ عليًّا خرج إلى النخلة فصلَّى بها الظهر والعصر ركعتين، ثم رجع من يومه، وقال: أردت أن أُعلِّمكم سُنَّةَ نبيِّكم».
          وكان حذيفة يصلِّي ركعتين فيما بين الكوفة والمدائن.
          وعن ابن عباس: تقصر الصلاة في مسيرة يوم وليلة.
          وعن ابن عمر وسويد بن غَفَلَة وعمر بن الخطاب: ثلاثة أميال.
          وعن أنس: «كان النبي صلعم إذا خرج مسيرة ثلاثة أميال أو ثلاثة فراسخ _شعبة الشَّاكُّ_ قصر». رواه مسلم.
          وعن الحسن: يقصر في مسيرة ليلتين.
          وعن أبي الشعثاء: ستة أميال.
          وعند مسلم عن جُبَير بن نُفَير قال: خرجت مع شُرَحْبِيل بن السِّمْط إلى قرية على رأس سبعة عشر أو ثمانية عشر ميلًا فصلَّى ركعتين، فقلت له، فقال: رأيت عمر صلَّى بذي الحُلَيفة ركعتين، فقلت له، فرفعه إلى النبي صلعم.
          وأما إتمام عثمان الصلاة بمنًى فللعلماء في ذلك أقوال؛ منها: أنه أتمَّها بمنًى خاصة، قال أبو عمر: قال قوم: أخذ بالمباح في ذلك؛ إذ للمسافر أن يقصر ويتمّ، كما له أن يصوم ويفطر.
          وقال الزهري: إنما صلَّى بمنًى أربعًا لأن الأعراب كانوا كثيرين في ذلك العام، فأحبَّ أن يخبرهم أن الصلاة أربع.
          وقال البيهقي في «المعرفة»: وقد رُوِّينا بإسنادٍ حسنٍ عن عبد الرحمن بن حميد، عن أبيه، أن عثمان أتمَّ بمنى، ثم خطب الناس فقال: «أيها الناس، إن السُّنَّةَ سُنَّةُ رسول الله صلعم وسُنَّةُ صاحبيه، ولكن حدث العام من الناس فخفت أن يستنُّوا».
          قال البيهقي: وهذا يؤيد رواية أيوبٍ عن الزهري أن عثمان أتمَّ بمنى من أجل الأعراب لأنهم كثروا عامئذٍ، ويضعف ما رواه معمر عنه أن عثمان إنما صلَّى أربعًا لأنه أجمع الإقامة بعد الحج.
          قال أبو عمر: المعروف عن عثمان أنه ما كان يطوف للإفاضة والوداع إلا ورواحله قد رُحِّلت.
          قال البيهقي: وروى يونس عنه: لمَّا اتَّخذ عثمان الأموال بالطائف وأراد أن يقيم بها صلَّى أربعًا.
          وروى مغيرة عن إبراهيم قال: صلَّى عثمان أربعًا لأنه كان اتَّخذها وطنًا.
          قال البيهقي / : وذلك مَدْخولٌ؛ لأنه لو كان إتمامه لهذا المعنى لما خَفِيَ ذلك على سائر الصحابة، ولما أنكروا عليه ترك السنة، ولما صلَّاها ابن مسعود في منزله أربعًا وهو لم ينوِ الإقامة كما قال عن عثمان.
          قال البيهقي: رُوِّينا بإسنادٍ صحيحٍ عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد في صلاة ابن مسعود أربعًا، وقولهم له: ألم تحدِّثنا: «أن النبي صلعم وأبا بكر وعمر صلَّوا ركعتين»؟ قال: بلى؛ ولكن عثمان كان إمامًا، والخلاف شرٌّ.
          وقال الشافعي: أخبرنا مالكٌ، عن نافعٍ، عن ابن عمر: «أنه كان يصلي وراء الإمام بمنًى أربعًا، فإذا صلَّى لنفسه صلَّى ركعتين».
          قال الشافعي: وهذا يدلُّ على أن الإمام إذا كان من أهل مكة _شرَّفها الله تعالى_ صلَّى بمنًى أربعًا، أو يكون الإمام كان من غير أهل مكة _شرَّفها الله تعالى_ يتمُّ بمنًى؛ لأن الإمام كان في زمان ابن عمر من بني أمية، وقد أتموا بإتمام عثمان، والإمام إذا أتمَّ بقومٍ لم تفسد صلاتهم.
          قال أبو عمر: قال ابن جُريج: إنَّ أعرابيًا نادى عثمان في منًى: يا أمير المؤمنين، ما زلت أصليها منذ رأيتك عام الأول صليتها ركعتين، فخشي عثمان أن يظنَّ جُهَّال الناس أن الصلاة ركعتين.
          ويخدش في هذا أن سيدنا رسول الله صلعم كان أولى الناس بذلك ولم يفعله.
          وروى عبد الله بن الحارث بن أبي ذُباب، عن أبيه _وقد عمل الحارث لعمر بن الخطاب_ قال: صلَّى بنا عثمان أربع ركعات، فلما سَلَّمَ أقبل على الناس فقال: إني تأهَّلت بمكة، وقد سمعت رسول الله صلعم يقول: «من تأهَّلَ ببلدة فهو من أهلها، فليصلِّ أربعًا».
          وفي «مسند محمد بن سَنْجَر» بسند ضعيفٍ: أن عثمان لما أنكروا عليه قال: أيها الناس، إنِّي لما قدمت تأهَّلتُ بها، إنِّي سمعت رسول الله صلعم يقول: «إذا تأهَّل الرجل ببلد فليصلِّ بهم صلاة المقيم».
          وقال ابن حزم: قيل: إنه تأوَّلَ أنَّه إمام الناس، فحيث حلَّ هو منزله.
          وهذا يردُّه أن النبي صلعم كان أولى بذلك ولم يفعله.
          قال: وقيل: كان أهله معه بمكة _شرفها الله تعالى_.
          وهذا يردُّه أن النبي صلعم / كان يسافر بزوجاته ولم يقصر.
          وقيل: كان لعثمان بمنًى أرض، فكأنه كالمقيم.
          وهذا فيه بُعدٌ؛ إذ لم يقل أحد: إن المسافر إذا مرَّ بما ملكه من الأرض ولم يكن له فيها أهل أن حكمه حكم المقيم.
          وفي «القِنْيَة»: إذا دخل المسافر مِصرًا وتزوَّج لا يصير مقيمًا بنفس التزوُّج، بخلاف المرأة.
          وذكر القرطبي أن الوجه في أمر عثمان: أنه هو وعائشة ☻ تأوَّلا أن القصر رخصةٌ غير واجب، فأخذا بالأكمل الأتمِّ، ولولا ذلك ما أقروا عثمان عليه، انتهى كلامه.
          وفيه نظرٌ لما في «صحيح مسلم» عن ابن عمر: «صحبتُ رسولَ الله صلعم في السفر فلم يزد على ركعتين حتى قُبِضَ، وصحبتُ أبا بكر فلم يزد على ركعتين حتى قُبِضَ، وعمر فلم يزد على ركعتين حتى قُبِضَ، وصحبتُ عثمان فلم يزد على ركعتين حتى قَبَضَه الله تعالى».
          وفي «صحيح ابن خزيمة»: «سافرتُ مع النبي صلعم ومع أبي بكر ومع عمر وعثمان فكانوا يصلون الظهر والعصر ركعتين ركعتين، لا يصلون قبلها ولا بعدها».
          ورواية ابن عمر: «أن النبي صلعم كان يصلي قبل وبعد» فذكر الترمذي أنه من رواية عَطيّة العَوفي، وهو ضعيف.
          فهذا نص أن عثمان كان يصلي ركعتين حتى قُبِضَ، وهو مخالف لما رواه البخاري عن ابن عمر: «صحبت عثمان فكان يصلي ركعتين صدرًا من خلافته» [خ¦1082].
          وطريق الجمع: أن ابن عمر أخبر عن عثمان في أسفاره إلا بمنًى، فإن عثمان إنما أتمَّ بها لا في سفره كله، على ما فسره عمران بن حصين المُصَحَّح حديثه عند الترمذي، واسترجاع ابن مسعود دليل أن عثمان عنده خالف الفضل، إذ لو اعتقد أنه ترك الفرض لما صح أن يُصلَّى خلفه.
          وذكر الداودي أن ابن مسعود كان يرى القصر فرضًا، فلأجل هذا استرجع.
          وفي ذلك نظر لما أسلفنا من أن ابن مسعود صحَّ عنه أنه صلَّى أربعًا وقال: «الخلاف شرٌّ». فلو كان يعتقد القصر فرضًا لكان الخلاف هذا خيرًا لا شرًّا.
          ومثله حديث ابن عباس: «صلينا مع رسول الله صلعم ونحن آمنون لا نخاف شرًّا بين مكة والمدينة ركعتين» رواه أبو بكرٍ بسندٍ صحيحٍ في «مصنفه».
          وقوله: (آمَنَ مَا كَانَ النَّاسُ) يريد بذلك دفعَ خلافِ من يقول: إنما تقصر الصلاة في خوف أو حرب.
          ذكر أبو جعفر في «تفسيره»: حدَّثنا أبو عاصم؛ عمران بن محمد / الأنصاري: حدَّثنا عبد الكبير بن عبد المجيد: حدَّثنا عمر بن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي بكر، عن أبيه، قال: سمعت عائشة تقول في السفر: أتمُّوا صلاتكم. فقالوا: إن رسول الله صلعم كان يصلي في السفر ركعتين، فقالت: «إن رسول الله صلعم كان في حرب وكان يخاف، فهل تخافون أنتم؟!».
          وفي لفظٍ عنده: «وكانت تصلي في السفر أربعًا».
          وحدَّثنا سعيد بن يحيى: حدَّثنا أبي، عن ابن جريج، قال: قلت لعطاء: أيُّ أصحاب رسول الله صلعم كان يتمُّ في السفر؟ قال: عائشة وسعد بن أبي وقاص.
          وفي «الاستذكار»: لما سئل سعد عن ذلك قال: عليكم بشأنكم، فأنا أعلم بشأني.
          قال أبو عمر: فلم يعب عليهم القصر ولا نهاهم عنه.
          وفي «المعرفة»: وروينا عن المِسْوَر بن مَخْرَمة، وعبد الرحمن بن الأسود بن عبد يغوث: أنهما كانا يتمان الصلاة في السفر.
          وروينا جواز الأمرين عن سعيد بن المسيَّب، وأبي قِلابة.
          وقال ابن أبي شيبة: حدَّثنا ابن فُضيل وأبو معاوية، عن الأعمش، عن عُمارة بن عُمير، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: قال عبد الله بن مسعود: لا تقصر الصلاة إلا في حج أو جهاد.
          وعن عثمان بن عفان: إنما يَقصُرُ الصلاةَ من كان حاجًّا أو بحضرة عدوٍّ، ورواه عن ابن عُليَّة، عن أيوب، عن أبي قِلابة، وكذا قاله إبراهيم التيمي.
          وفي «الاستذكار» عن عطاء: ما أرى أن تقصر الصلاة إلا في سبيلٍ من سبل الله تعالى. وقد كان قبل ذلك لا يقول هذا، كان يقول: يقصر في كل ذلك.
          وكان طاوس يسأله الرجل فيقول: أسافر لبعض حاجتي أفأقصر الصلاة؟ فيسكت ويقول: إذا خرجنا حجَّاجًا أو عمَّارًا صلينا ركعتين.
          قال أبو عمر: ذهب داود في هذا إلى قول ابن مسعود، وهو نقض لأصله في ترك ظاهر الكتاب؛ إذ لم يخص ضربًا من ضربٍ.
          واختلف أهل الظاهر في هذه المسألة: فطائفة قالت بقول داود، وقال أكثرهم: يقصر كل مسافر، العاصي والمطيع كمذهب أبي حنيفة، وذهب مالك والشافعي إلى أنه لا يقصر إلا من سافر في طاعة إن يباح، فإن سافر متلذِّذًا أو شبهه فلا يقصر ولا يفطر.
          وعند الطبري _بسندٍ صحيحٍ_ عن أبي العالية قال: سافرت إلى مكة _شرَّفها الله / تعالى_ فكنت أصلي ركعتين، فلقِيَني قرَّاء من هذه الناحية فقالوا: كيف تصلي؟ قلت: ركعتين. قالوا: أسنة أو قرآن؟ قلت: كل ذلك سنة وقرآن، صلَّى رسول الله صلعم ركعتين، قالوا: إنه كان في حرب. قلت: قال الله تبارك وتعالى: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ}[الفتح:27]، وقال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}[النساء:101] الآية.
          وقد أوضح هذا الأمر ما في «صحيح مسلم» عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر بن الخطاب: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ}[النساء:101] فقد أمن الناس؟ فقال عمر: عجبتُ مما عجبت منه، فسألتُ رسولَ الله صلعم عن ذلك فقال: «صَدَقةٌ تصدَّق الله بها عليكم، فاقبَلُوا صدقته».
          وفي «الاستذكار» عن أبي حنظلة الحذَّاء: قلت لابن عمر: أُصلِّي في السفر ركعتين والله تعالى يقول: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}[النساء:101] فقال: كذا سنَّ رسول الله صلعم.
          وفي «تاريخ أصبهان» لأبي نُعَيمٍ: حدَّثنا سليمان: حدَّثنا محمد بن سهل الرِّبَاطي: حدَّثنا سهل بن عثمان، عن شريك، عن قيس بن وهب، عن أبي الكَنود: سألت ابنَ عمر عن صلاة السفر فقال: ركعتان نزلت من السماء، فإن شئتم فردُّوها.
          أخبرنا الإمام المسند يحيى بن أبي الفتوح المصري، بقراءتي عليه، عن الإمام بهاء الدين المصري، أخبرتنا شَهْدة قالت: أخبرنا ابن هريسة: أخبرنا البَرْقاني: أخبرنا الإسماعيلي: حدَّثنا محمد بن الفضل المحمد آباذي: حدَّثنا عبد الله بن مسلم الدمشقي: حدَّثنا شريك، عن جابر، عن عامر، عن ابن عباس وابن عمر قالا: «سنَّ رسول الله صلعم الصلاة في السفر ركعتين، وهي تمام» الحديث، وسيأتي فيه زيادة بعد.
          وأما منًى: فذكر هشام بن السائب الكلبي في كتابه «أسماء البلدان» روايةَ أبي بكرٍ؛ أحمد بن سهل الحُلواني: إنما سُمِّيت منًى لأنه مُنيَ بها الكبش الذي فُدي به إسماعيل صلعم، مُنيَ من المَنِيَّة.
          قال: وأخبرني أبو محمد بن السائب: إنما سُمِّيت منًى لما يمنى فيها من الشعر والدم في قول ابن عباس.
          ويقال: إن جبريل لما أتى آدم صلعم بمنًى قال له: تَمَنَّ، في قول محمد بن علي بن حسين.
          وقال البكري في «معجم ما استعجم»: هو / جبل بمكة معروف.
          وقال أبو علي الفارسي: لامه ياء من مَنَيت الشيء إذا قدرته. من قول الشاعر:
حتى تُلاقي ما يَمْني لك الماني
          والتقاؤهما: أن الناس يقفون بمنى فيقدرون أمورهم وأحوالهم فيها، وهذا صحيح مستقيم، وهي تؤنث وتذكر، فمن أنَّث لم يُجزه، ويقول: هذا منى.
          وقال الفراء: الأغلب عليه التذكير. قال العَرْجِي في تأنيثه:
ليَومُنا بمنًى إذ نحن ننزُلُها                     أشدُّ من يومنا بالعَرْج أو مَلَلِ
          وقال دِعْبِل في تذكيره:
سقى منًى ثم روَّاه وساكنه                     وما ثوى فيه واهي الوَدق مُنْبَعِق
          وأما قول لَبِيد بن ربيعة:
عفت الديار محلها فمقامها                     بمنًى تأبَّد غَوْلها فرِجَامها
          فهو موضع في بلاد بني عامرٍ، قاله أبو الفرج الأموي.
          وزعم أبو بكرٍ الحازمي: أن منى صقع قرب مكة، وهو أيضًا هضبة قرب ضَرِيَّة في ديار غَني بن أَعصُر.
          وذكره القزاز وصاحب «الواعي» و«الصحاح» في المعتل بالألف.
          قال أبو نصر: موضع بمكة، مقصور، مذكَّر يصرف، وقد امتنى القوم: إذا أتوا منى، عن يونس. وقال ابن الأعرابي: أمنى القوم.
          وقال ابن خزيمة: ليست منى ولا عرفات من مكة؛ بل هما خارجان من مكة، منى بائن من بناء مكة وعمرانها.
          وقد يجوز أن يكون اسم مكة يقع على جميع الحرم لا على نفس البنيان المتّصل بعضه ببعض خاصّة، فإن كان اسم مكة يقع على جميع الحرم فمنى داخلٌ في الحرم. والله تعالى أعلم.