التلويح شرح الجامع الصحيح

باب: يقصر إذا خرج من موضعه

          ░5▒ بَابُ يَقْصُرُ إِذَا خَرَجَ مِنْ مَوْضِعِهِ
          وَخَرَجَ عَلِيٌّ فَقَصَرَ وَهُوَ يَرَى البُيُوتَ، فَلَمَّا رَجَعَ قِيلَ لَهُ: هَذِهِ الكُوفَةُ، قَالَ: «لَا حَتَّى نَدْخُلَهَا».
          هذا التعليق رواه أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن المُغَلِّس في «الموضح» تأليفه، عن بشر بن موسى: حدَّثنا خَلَّاد بن يحيى، عن سفيان، عن وِقاء بن إياس الأسدي: أخبرنا علي بن / ربيعة، قال: خرجنا مع عليٍّ، فقصر ونحن نرى البيوت، ثم رجعنا فقصرنا ونحن نرى البيوت، فقلنا له فقال: نقصر حتى ندخلها.
          ورواه الحاكم عن أبي العباس محمد بن يعقوب: حدَّثنا الحسن بن مكرم: حدَّثنا يزيد _يعني ابن هارون_ أخبرنا وقاء.
          وقال البيهقي: أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو: أخبرنا محمد بن يعقوب: حدَّثنا أَسِيد بن عاصم: حدَّثنا الحسين بن حفص، عن سفيان: حدَّثنا وِقاء، فذكره.
          ووِقاء فيه كلام، فينظر في جزم البخاري بالتعليق عنه.
          وقد رأيت أبا عمر قال: روى سفيان بن عيينة وغيره، عن أبي إسحاق، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: خرجتُ مع علي بن أبي طالب إلى صفِّين، فلما كان بين الجسر والقنطرة صلَّى ركعتين. انتهى، وسنده صحيح.
          وعن الثوري، عن داود بن أبي هند، عن أبي حرب بن أبي الأسود، أن عليًّا حين خرج من البصرة رأى خُصًّا _يعني خيمة_ فقال: لولا هذا الخُصُّ لصلَّينا ركعتين. وروى وكيع عن الثوري مثله.
          قال أبو عمر: وقيل هذا عن علي من وجوه شتَّى، وهو مذهب جماعة العلماء إلا من شذَّ، وممن روينا عنه ذلك: علقمة، والأسود، وعمرو بن ميمون، والحارث بن قيس الجعفي، والنخعي، وعطاء، وقتادة، والزهري، وهو [قول] مالك، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد، وسفيان الثوري، وسليمان بن موسى، والأوزاعي، وأهل الحديث.
          حديث أنس: «.. وَبِذِي الحُلَيْفَةِ رَكْعَتَيْنِ» [خ¦1089].
          يأتي إن شاء الله تعالى في الحج.
          وحديث عائشة: «الصَّلَاةُ أَوَّلُ مَا فُرِضَتْ رَكْعَتَيْن» [خ¦1090].
          تقدم في أول كتاب الصلاة، ومما ينبَّه عليه هنا قوله: حدَّثنا عبد الله بن محمد: حدَّثنا سفيان، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة: «فُرِضَتِ الصَّلَاةُ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ هَاجَرَ رسول الله صلعم فَفُرِضَتْ أَرْبَعًا» الحديث.
          سفيان هذا: هو ابن عيينة، قاله الطَّرْقي، وصرح به الحُميدي والشافعي، إذ رَوَيَاهُ عنه، وكذا ابن حزم.
          وقال أبو عمر: كل من رواه عن عائشة قال فيه: «فرضت الصلاة» إلا ما حدث به أبو إسحاق الحربي قال: حدَّثنا أحمد بن الحجاج: حدَّثنا ابن المبارك: حدَّثنا ابن عجلان، عن صالح بن كَيسان، عن عروة، عن عائشة قالت: «فرض رسول الله صلعم الصلاة ركعتين ركعتين» الحديث، انتهى كلامه.
          وفي «مسند عبد الله بن وهب» بسند صحيح عن عروة عنها: «فرض الله / الصلاة حين فرضها ركعتين» الحديث.
          وعند السراج بسند صحيح قالت: «فرض [الله] الصلاة على رسوله صلعم أول ما فرضها ركعتين» الحديث.
          وفي لفظ: «كان أول ما افتُرِض على رسوله صلعم من الصلاة ركعتين ركعتين إلا المغرب» وسنده صحيح.
          وعند البيهقي من حديث داود بن أبي هند، عن عامر عن عائشة قالت: «افترض الله الصلاة على نبيكم بمكة ركعتين ركعتين؛ إلا المغرب، فلما هاجر إلى المدينة زاد إلى كل ركعتين ركعتين إلا صلاة الغداة».
          قال: وقد رويناه من حديث بَكَّار بن عبد الله، عن داود، عن عامر، عن مسروق، عن عائشة بمعناه. وكذا قاله محبوب عن داود.
          وقال الدولابي: نزل إتمام صلاة المقيم في الظهر يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر بعد مقدمه صلعم بشهر، وأقرت صلاة السفر ركعتين.
          وقال المهلب: المغرب فرضت وحدها ثلاثًا، وما عداها ركعتين ركعتين.
          وقال الأَصيلي: أول ما فرضت الصلاة أربعًا على هيئتها اليوم، وأنكر قول من قال: فرضت ركعتين، وقال: لا يقبل في هذا خبر الآحاد، وأنكر حديث عائشة.
          وقال أبو عمر بن عبد البر: رواه مالك عن صالح بن كيسان عن عروة عن عائشة، وقال: حديث صحيح الإسناد عند جماعة أهل النقل، لا يختلف أهل الحديث في صحة إسناده؛ إلا أن الأوزاعي قال فيه: عن الزهري عن عروة عن عائشة، وهشام بن عروة عن عروة عن عائشة، ولم يروه مالك عن ابن شهاب ولا عن هشام، إلا أن شيخًا يسمَّى يحيى بن محمد بن عباد بن هانئ رواه عن مالك وابن أخي الزهري، جميعًا عن الزهري، عن عروة عن عائشة، وهذا لا يصح عن مالك، والصحيح في إسناده عن مالك ما في «الموطأ»، وطرقه عن عائشة متواترة، وهو عنها صحيح، ليس في إسناده مقال.
          إلا أن أهل العلم اختلفوا في معناه، فذهب جماعة منهم إلى ظاهره وعمومه وما يوجبه لفظه، فأوجبوا القصر في السفر فرضًا، وقالوا: لا يجوز لأحد أن يصلي في السفر إلا ركعتين ركعتين في الرباعية، وحديث عائشة واضح في أن الركعتين للمسافر فرض؛ لأن الفرض الواجب لا يجوز خلافه ولا الزيادة عليه، ألا ترى أن المصلي في الحضر / [لا] يجوز له أن يزيد في صلاة من الخمس شيئًا، ولو زاد لفسدت، فكذلك المسافر لا يجوز له أن يصلي في السفر أربعًا لأن فرضه فيه ركعتان.
          وممن ذهب إلى هذا:
          عمر بن عبد العزيز إن صح عنه، وعنه: الصلاة في السفر ركعتان لا يصح غيرهما. ذكره ابن حزم محتجًا به.
          وحماد بن [أبي] سليمان، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وهو قول بعض أصحاب مالك.
          وروي عن مالك أيضًا _وهو المشهور عنه_ أنه قال: من أتمَّ في السفر أعاد في الوقت.
          واستدلوا بحديث عمر بن الخطاب: «صلاة المسافر ركعتان، تمام غير قصر، على لسان نبيكم صلعم» رواه النسائي بسند صحيح.
          وبما رواه ابن عباس من عند مسلم: «إن الله فرض الصلاة على نبيكم صلعم في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين».
          وفي «التمهيد» من حديث أبي قِلابة، عن رجل من بني عامر، أنَّه أتى النبي صلعم فقال له: «إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة»، وعن أنس بن مالك القشيري عن النبي صلعم مثله.
          وعند ابن حزم _صحيحًا_ عن ابن عمر قال رسول الله صلعم: «صلاة السفر ركعتان، من ترك السنة كفر».
          وعن ابن عباس: «من صلَّى في السفر أربعًا، كمن صلَّى في الحضر ركعتين».
          وفي «مسند السراج» _بسند جيد_ عن عمرو بن أمية الضمري يرفعه: «أن الله رفع عن المسافر الصيام ونصف الصلاة».
          وهو قول عمر، وعلي، وابن مسعود، وجابر، وابن عباس، وابن عمر، والثوري.
          وقال الأوزاعي: إن قام إلى الثالثة ألغاها وسجد للسهو.
          قال الحسن بن حَيٍّ: إذا صلَّى أربعًا متعمِّدًا أعادها إذا كان ذلك منه الشيء اليسير، فإن طال ذلك منه وكثر في سفره لم يعد.
          وقال الحسن البصري: من صلَّى أربعًا عمدًا بئس ما صنع وقضت عنه. ثم قال للسائل: لا أبا لك، أترى أصحاب محمد صلعم تركوها لأنها ثقلت عليهم؟!
          وقال الأثرم: قلت لأحمد: الرجل يصلي أربعًا في السفر؟ قال: لا، ما يعجبني.
          وقال البَغَوي الشافعي: هذا قول أكثر العلماء.
          وقال الخَطابي: الأولى القصر ليخرج من الخلاف.
          وقال الترمذي: العمل على / ما فعله النبيُّ صلعم.
          وقال أبو عمر: وقد طعن [قوم في] حديث عائشة لقول الله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}[النساء:101]، وقالوا: لو كانت ركعتين لم يقصر؛ لأن الإجماع منعقد ألا يصلي المسافر [الآمن] في سفره أقل من ركعتين في شيء من الصلوات، فأيّ قصر كان يكون لو كانت الصلاة ركعتين؟!
          قال أبو عمر: وهذه غفلة شديدة؛ لأن الصلاة إن كانت فُرِضت بمكة _شرَّفها الله تعالى_ ركعتين كما قالت عائشة، فقد زِيدَ فيها على قولها بعد قدومه صلعم المدينة، وبعد ذلك نزلت سورة النساء في إباحة القصر للضاربين في الأرض وهم المسافرون، وهذا لا يخفى على من له أدنى فهم، على أنَّا نقول: إن فرض الصلاة استقر من زمنه صلعم إلى يومنا هذا في الحضر أربعًا، وفي السفر ركعتين لمن شاء عند قوم، وعند آخرين على الإلزام، فلا حاجة بنا إلى أول فرضها لما فيه من الاختلاف، فمن ذهب إلى الإلزام ذهب إلى حديث عائشة، وهو حديث قد خولفت فيه، وكانت هي أيضًا لا تأخذ به؛ لأنها كانت تتمُّ في سفرها، ولا يظن عاقل بها تعمد فساد صلاتها بالزيادة فيها ما ليس منها عامدة، فدلَّ ذلك على أنها علمت أن القصر ليس بواجب، وأنه رخصة، ولا وجه لقول من قال: إنها تأوَّلت أنها أمُّ المؤمنين فحيث حلَّت عند بَنِيْها؛ لأنه قول ضعيف لا معنى له ولا دليل عليه، لأنها إنما صارت أمَّ المؤمنين بأن كانت زوجًا لأبي المؤمنين صلعم، فكان هو صلعم أولى بذلك.
          والأولى عندنا أنها علمت أنه صلعم لما خُيِّر في القصر والإتمام اختار الأيسر من ذلك على أمته، فأخذت هي في خاصتها بغير الرخصة، إذا كان ذلك مباحًا لها، وقد أسلفنا عنها بمعنى ذلك مرفوعًا.
          قال أبو عمر: والمصير إلى ظاهر قوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ}[النساء:101] أولى؛ لأن رفع الحرج يدل على الإباحة لا على الإلزام، مع ما تقدم من الآثار المبيِّنة بأن قصر الصلاة سنة ورخصة وصدقة.
          والذي ذهب إليه أكثر العلماء من السلف والخلف في قصر الصلاة في السفر أنها سنة مسنونة لا فريضة، وبعضهم يقول: رخصة وتوسعة، فمن جعلها سنة رأى الإعادة منها في الوقت، وكره الإتمام، وهذا تحصيل مذهب مالك / وأكثر أصحابه، ومن رآها رخصة وأجاز الإتمام، وجعل المسافر بالخيار في القصر والإتمام.
          روى أبو مصعب عن مالك أنه قال: القصر في السفر سنة مؤكدة للرجال والنساء.
          وقال الشافعي: لا أحب لأحد أن يتمَّ رغبة عن السنة، فإن أتمَّ متأوِّلًا وأخذ بالرخصة فلا حرج، قال: وليس للمسافر أن يصلي ركعتين حتى ينوي القصر.
          قال أبو عمر: فهو على أصله فرضُه أربع، وأصحابه اليوم على أن المسافر مخيَّر في القصر والإتمام، وكذلك جماعة المالكيين من البغداديين.
          قال أبو عمر: والفصل عندي القصر.
          وقال القاضي أبو محمد بن عبد الحق في ردِّه على صاحب الكتاب «المحلى»: إن حمل حديث عائشة على ظاهره فهذان الحديثان ناسخان له، وكذا حديث عمر وابنه، ولا يقال بالنسخ إلا بعد تعذر الجمع، والجمع بينهما قريب، والتأويل سائغ، فيكون معنى قول عائشة: «وأقرت صلاة السفر» لمن شاء أو أخذ بالرخصة، وكذا حديث عمر وابنه.
          يعني حديث العلاء بن زهير من عند النسائي، عن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه عنها: «خرجت مع النبيِّ صلعم في غزوة في رمضان فأفطر النبيُّ صلعم وصمتُ، وقصرَ وأتممتُ، فقلت: يا رسول الله أفطرتَ وصمتُ وقصرتَ وأتممتُ؟ فقال: أحسنتِ يا عائشة».
          قال: وهو حديث صحيح، وإن كان ابن حزم رَدَّه بجهالة حال العلاء فليس جيدًا؛ لأن العلاء ثقة مشهور.
          وزعم ابن حزم أن عطاء روى عن عائشة: «أن النبي صلعم كان يقصر في السفر ويتمُّ»، ثم قال: تفرد به المغيرة بن زياد، ولم يروه غيره، وهو منكر الحديث.
          وهو غير جيد أيضًا؛ لأن الدارقطني رواه في «سننه» من حديث أبي عاصم: حدَّثنا عمرو بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح، عنها، الحديث، ثم قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح.
          وأما حديث: «المتمُّ في السفر كالمقصر في الحضر» فردَّه العقيلي _لمَّا رواه_ برواية عمر بن سعيد وغيره.