النكت على صحيح البخاري

باب سؤال جبريل النبي عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة

          ░37▒ قوله: (بَابُ سُؤَالِ جِبْرِيلَ عَنِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ...إلى آخره) تقدَّم أن المصنف يرى أن الإيمان والإسلام عبارة عن معنى واحد، فلمَّا كان ظاهر سؤال جبريل عن الإيمان والإسلام يقتضي تغايرهما وأنَّ الإيمان تصديق بأمور مخصوصة، والإسلام إظهار أعمال مخصوصة أراد أن يَرُدَّ ذلك بالتأويل إلى طريقته.
          قوله: (وَبَيَانِ) أي: مع بيان أن الاعتقاد والعمل دِيْ.
          وقوله: (وَمَا بَيَّنَ) أَيْ: مَعَ مَا بَيَّنَ لِلْوَفْدِ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ الْإِسْلَامُ حَيْثُ فَسَّرَهُ فِي قِصَّتِهِمْ بِمَا فَسَّرَ به (1) الإسلام هنا. /
          وقوله: (وَقَوْلِ الله) أي: مع ما دلت عليه الآية أنَّ الإسلام هو الدِّين، فاقتضى ذلك أنَّ الإسلام والإيمان أمر واحد، هذا محصِّل كلامه، وقد نقل أبو عوانة الإسْفَرَاييني في «صحيحه» عن الْمُزَنِيِّ صاحب الشافعي الجزمَ بترادفهما؛ سمع ذلك منه، وعن الإمَّام أحمد الجزم بتغايرهما، ولكل من القولين أدلة متعارضة.
          وقَالَ الخَطَّابِيُّ: صنَّفَ في المسألة إمَامان كبيران وأكثرا من الأدلة للقولين وتباينا في ذلك، والحق: أنَّ بينهما عمومًا وخصوصًا؛ فكل مؤمن مسلم، وليس كل مسلم مؤمنًا. انتهى كلامه ملخصًا.
          ومقتضاه: أنَّ الإسلام لا يطلق على الاعتقاد والعمل معًا، بخلاف الإيمان فإنَّه يطلق عليهما معًا، ويَرِدُ عليه قوله تعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3 ] ؛ فإنَّ الإسلام هنا يتناول العمل والاعتقاد معًا؛ لأنَّ العاملَ غيرَ المُعتَقِدِ ليس بذي دِين مرضي.
          وبهذا استدلَّ الْمُزَنِيُّ وأبو محمد البَغَويُّ، فقال في الكلام على حديث جبريل هذا: جعل النبي صلعم الإسلام هنا اسمًا لما ظهر من الأعمال، والإيمان اسمًا لما بَطُنَ من الاعتقاد، وليس ذلك؛ لأنَّ الأعمال ليست من الإيمان، ولا لأنَّ التصديق ليس من الإسلام بل ذاك تفصيل لجملة كلها شيء واحد وجِمَاعُها الدين، ولهذا قال صلعم: ((أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ))، وقال سبحانه وتعالى: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا} [المائدة:3] ، وقال: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران:85] ، ولا يكون الدِّين في محل الرِّضا والقبول إلا بانضمام التصديق. انتهى كلامه.
          والذي يظهر من مجموع الأدلة أنَّ لكل منهما حقيقة شرعية، كما أنَّ لكلٍّ منهما حقيقة لغوية، لكن كل منهما مستلزم للآخر بمعنى (2) التكميل له، فكما أنَّ العامل لا يكون مسلمًا كاملًا إلا إذا اعتقد فكذلك المعتقد لا يكون مؤمنًا كاملًا إلا إذا عمل، وحيث يطلق الإيمان في موضع الإسلام أو العكس أو يطلق أحدهما على إرادتهما معًا فهو على سبيل المجاز ويتبين المراد بالسياق، فإن وردا في مقام السؤال حُمِلا على الحقيقة، وإن لم يَرِدا معًا أو لم يكن في مقامِ سؤالٍ أمكن الحمل على الحقيقة أو على المجاز بحسب ما يظهر من القرائن.
          قوله: (وَعِلْمِ السَّاعَةِ) تفسير منه / للمراد بقول جبريل في السؤال: (مَتَى السَّاعَةُ؟) أي: متى علم الساعة؟ ولابد من تقدير محذوف آخر، أي: متى علم قيام الساعة؟
          قوله: (وَبَيَانِ النَّبِيِّ صلعم) هو مجرور؛ لأنَّه معطوف على (عِلْمِ) المعطوف على (سُؤَالِ) المجرور بالإضافة.
          فإن قيل: لم يُبيِّنِ النبيُّ صلعم وقتَ الساعة، فكيف قال: (وَبَيانِ النَّبيِّ صلعم لَهُ)؟
          فالجواب: أنَّ المراد بالبيان بيانُ أكثرِ المسؤولِ عنه فأطلقه؛ لأنَّ حكم معظم الشيء حكم كله، أو جعل الحكم في علم الساعة بأنَّه لا يعلمه إلا الله بيانًا له.


[1] في الأصل: ((بما فسره))..
[2] في الأصل: ((بمضي)).