النكت على صحيح البخاري

باب إفشاء السلام من الإسلام

          ░20▒ قَوْلُهُ: (بابٌ) هو منوَّنٌ.
          وقَوْلُهُ: (السَّلاَمِ مِنَ الإِسْلاَمِ) زاد في رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: <إِفْشَاءُ السَّلاَمِ> والمراد بالإفشاء: نشره سرًّا أو جهرًا، وهو مطابق للمرفوع في قوله: «عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ» [خ¦28].
          وبيان كونه من الإسلام تقدَّم (1) في باب: إطعام الطعام، مع بقية فوائده.
          وغاير المصنِّف بين شَيخيه اللَّذين حدَّثاه عن الليث مراعاة للإتيان بالفائدة الإسنادية، وهي تكثير الطرق حيث يحتاج إلى إعادة المتن، فإنَّه لا يُعيد الحديث الواحد في موضعين على صورة واحدة.
          فإن قيل: كان يمكنه أن يجمع الحكمتين في ترجمة واحدة ويُخَرج الحديث عن شيخيه معًا.
          أجاب الكرماني: باحتمال أن يكون كل من شيخيه أورده في معرض غير المعرض الآخر، وهذا ليس بطائل؛ لأنَّه يبقى السؤال بحاله، إذ لا يمتنع معه أن يجمعهما المصنف ولو كان سمعهما مفترقين.
          والظاهر من صنيع البُخَارِيِّ أنَّه يقصد تعديد شُعَب الإيمان كما قدمناه، فخصَّ كل شعبة بباب تنويهًا بذكرها، وقصد التنويه يحتاج إلى التأكيد، فلذلك غاير بين الترجمتين.
          قَوْلُهُ: (وَقَالَ عَمَّارٌ) هو ابن ياسر أحد السابقين الأولين، وأثرُه هذا أخرجه أحمد بن حنبل في «كتاب الإيمان» من طريق سفيان الثوري.
          ورواه يعقوب بن شيبة في «مُسْنَدِهِ» من طريق شعبة وزهير بن معاوية وغيرهما كلهم عن أبي إِسْحَاقَ السَّبِيْعِيِّ، عن صِلَة بن زُفر، عن عمَّار، ولفظ شعبة: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ))، وهو بالمعنى، وهكذا رويناه في «جامع مَعْمَر» عن أبي إِسْحَاقَ، وكذا حدَّث به عبد الرزاق في «مصنفه» عن معمر.
          وحدَّث به عبد الرزاق بآخرة فرفعه إلى النبي صلعم، كذا أخرجه البزار في «مُسْنَدِهِ» وابن أبي حاتم في «العلل» كلاهما عن الحسن بن عبد الله الكوفي، وكذا رواه البغوي في «شرح السنَّة» من طريق أحمد بن كعب الواسطي، وكذا أخرجه ابن الأعرابي في «معجمه» عن محمد بن الصبَّاح الصنعاني ثلاثتهم عن عبد الرزاق مرفوعًا، واستغربه البزار، وقال أبو زرعة: هو خطأ.
          قلت: وهو معلول من حيثُ / صناعة الإسناد؛ لأنَّ عبد الرزاق تغير بآخرة وسماع هؤلاء منه في حال تغيره إلا أن مثله لا يُقَالُ بالرأي، فهو في حكم المرفوع، وقد رويناه مرفوعًا من وجه آخر عن عمار، أخرجه الطبراني في «الكبير» وفي إسناده ضعف، وله شواهد أخرى بَيَّنْتُها في «تغليق التعليق».
          قَوْلُهُ: (ثَلَاثٌ) أي: خصال ثلاث، وإعرابه نظير ما مرَّ (2) في قوله: ((ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيْهِ)).
          و(العَالَم) بفتح اللام، والمراد به هنا: جميع الناس.
          و (الإِقْتَارِ): القلة.
          قال أبو الزناد بن سراج وغيره: إنَّما كان من جمع الثلاث مُستكملًا للإيمان؛ لأنَّ مداره عليها؛ لأنَّ العبد إذا اتصف بالإنصاف لم يترك لمولاه حقًا واجبًا عليه إلا أدَّاه، ولم يترك شيئًا ممَّا نهاه عنه إلا اجْتَنَبَهُ، وهذا يجمع أركان الإيمان، وبذل السلام يتضمن مكارم الأخلاق والتواضع وعدم الاحتقار، ويحصل به التآلف والتحابب، والإنفاق من الإقتار يتضمَّن غاية الكرم؛ لأنَّه إذا أنفق مع الاحتياج كان مع التوسع أكثر انفاقًا، والنفقة أعم من أن تكون على العيال واجبة أو مندوبة، أو على الضيف والزائر، وكونه من الإقتار يستلزم الوثوق بالله، والزهد في الدنيا، وقصر الأمل، وغير ذلك من مهمات الآخرة.
          وهذا التقرير يقوِّي أن يكون الحديث مرفوعًا؛ لأنَّه يشبه أن يكون كلام من أوتي إليه جوامع الكلم، والله أعلم.


[1] ح: (12).
[2] ح: (16).