النكت على صحيح البخاري

باب زيادة الإيمان ونقصانه

          ░33▒ قوله: (بَابُ: زِيَادَةِ الْإِيمَانِ وَنُقْصَانِهِ) تقدَّم له قبلُ بستة عشر بابًا: بَابُ تَفَاضُلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ فِي الْأَعْمَالِ، وأورد فيه حديث أبي سعيد الخدري بمعنى حديث أنس الذي أورده هنا، وتعقب عليه بأنَّه تكرار.
          وأجيب عنه: بأنَّ الحديث لمَّا كانت الزيادة و النقصان فيه باعتبار الأعمال أو باعتبار التصديق ترجم لكل من الاحتمالين، وخص حديث أبي سعيد بالأعمال؛ لأنَّ سياقه ليس فيه تفاوت بين الموزونات، بخلاف حديث أنس ففيه التفاوت في الإيمان القائم بالقلب من وزن الشعيرةِ والبُرَّةِ والذَّرَّةِ.
          قال ابن بطَّال: التفاوت في التصديق على قدر العلم والجهل، فَمَنْ قَلَّ علمه كان تصديقه مثلًا بمقدار ذرة، والذي فوقه في العلم تصديقه بمقدار بُرَّةٍ أو شعيرةٍ، إلا أنَّ أصلَ التَّصْديقِ الحاصلِ في قلبِ كلِّ واحدٍ منهم لا يجوز عليه النقصان، ويجوز عليه الزيادة بزيادة العلم والمعاينة. انتهى.
          وقد تقدم كلام النووي في أول الكتاب بما يشير إلى هذا المعنى.
          فإن قيل: فلِمَ أعاد في هذا الباب الآيتين المذكورتين فيه وقد تقدما في أول كتاب الإيمان؟
          فالجواب: أنَّه أعادهما ليوطِّئَ بهما معنى الكمال المذكور في الآية التالية؛ لأنَّ الاستدلالَ بهما نصٌّ في الزيادة وهو مُسْتَلزمٌ للنقص، وأمَّا الكمال فليس نصًا في الزيادة بل هو مستلزمٌ للنقص فقط، واستلزامه للنقص يستدعي قبوله للزيادة، ومن ثم قال المصنف: (فَإِذَا تَرَكَ شَيْئًا مِنَ الكَمَالِ فَهُو نَاقِصٌ)، ولهذه / النكتة عدل في التعبير للآية الثالثة عن أسلوب الآيتين، حيث قال أولًا: (وقول الله) وقال ثانيًا: (وقال).
          وبهذا التقدير يندفع اعتراضُ مَنِ اعترضَ عليه بأنَّ آية: { أَكْمَلْتُ لَكُمْ} [المائدة:3] لا دليل فيها على مُراده؛ لأنَّ الإكمال إنْ كان بمعنى إظهار الحجة على المخالفين أو بمعنى إظهار أهل الدين على المشركين فلا حُجَّةَ للمصنف فيه، وإن كان بمعنى إكمال الفرائض لزم عليه أنَّه كان قبل ذلك ناقصًا، وأنَّ من مات من الصحابة قبل نزول الآية كان إيمانه ناقصًا، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّ الإيمان لم يزل تامًا.
          ويوضحُ دَفْعُ هذا الاعتراض جواب القاضي أبو بكر بن العربي: بأنَّ النقصَ أمرٌ نسبيٌّ، لكن منه ما يترتب عليه الذم، ومنه ما لا يترتب، فالأول ما نقصه بالاختيار كمن علم وظائف الدين ثم تركها، والثاني ما نقصه بغير اختيار كمن لم يعلم أو لم يكلف، فهذا لا يذم بل يُحمد من جهة أنَّه إن كان قلبه مطمئنًا بأنَّه لو زِيْدَ لقُبِل ولو كُلِّفَ لَعَمِلَ، وهذا شأن الصحابة الذين ماتوا قبل نزول الفرائض، ومُحَصِّلُه: أنَّ النقص بالنسبة إليهم صوري، ولهم فيه رتبة الكمال من حيث المعنى.