النكت على صحيح البخاري

باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر

          ░36▒ قوله: (بَابُ: خَوْفِ الْمُؤْمِنِ مِنْ أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ).
          هذا الباب معقودٌ للردِّ على المُرْجئة خاصة، وإن كان أكثر ما مضى من الأبواب قد تضمَّن الردَّ عليهم، لكن قد يشركهم غيرهم من أهل البدع في شيء منها بخلاف هذا.
          والْمُرْجِئَةُ _بضم الميم وكسر الجيم بعدها ياء مهموزة وبجوز تشديدها بلا همز_ نُسِبُوا إلى الإرجاء؛ وهو التأخير؛ لأنَّهم أخَّروا الأعمال عن الإيمان، فقالوا: / الإيمان هو التصديق بالقلب فقط، ولم يشترط جمهورهم النطق، وجعلوا للعصاة اسم الإيمان على الكمال، وقالوا: لا يضرُّ مع الإيمان ذنبٌ أصلًا، ومقالاتهم مشهورة في كتب الأصول.
          ومناسبة إيراد هذه الترجمة عقب التي قبلها من جهة أنَّ اتباع الجنازة مظنةٌ لأنَّ يُقْصَد بها مراعاة أهلها أو مجموع الأمرين، وسياق الحديث يقتضي أنَّ الأجرَ الموعودَ به إنَّما يحصل لمن صنع ذلك احتسابًا، أي: خالصًا، فعقَّبه بما يشير إلى أنَّه قد يعرض للمرء ما يُعكِّر على قصده الخالص فَيُحْرَم به الثواب الموعود وهو لا يشعر.
          فقوله: (أَنْ يَحْبَطَ عَمَلُهُ) أي: يُحْرَم ثواب عمله؛ لأنَّه لا يُثاب إلا على ما أَخْلَصَ فيه، وبهذا التقرير يندفعُ اعتراضُ منِ اعترضَ عليه بأنَّه يقوي مذهب الإحباطية الذين يقولون: إِنَّ السَّيِّئَاتِ يُبْطِلْنَ الْحَسَنَاتِ، وقال القاضي أبو بكر بن العربي في الردِّ عليهم: القول الفصل في هذا أنَّ الإحباط إحباطان:
          أحدهما: إبطال الشيء للشيء وإذهابه جملة، كإحباط الكفر للإيمان والإيمان للكفر، وذلك في الجهتين إذهاب حقيقي.
          ثانيهما: إحباط الموازنة إذا جعلت الحسنات في كفَّةٍ والسيئات في كفَّةٍ، فمن رجحت حسناته نجا، ومن رجحت سيئاته وُقِفَ في المشيئة، إمَّا أن يُغْفَر له وإمَّا أن يُعَذَّب، فالتوقيف إبطالٌ ما؛ لأنَّ توقف المنفعة في وقت الحاجة إليها إبطال لها، والتعذيب إبطال أشد منه إلى حين الخروج من النار، ففي كل منهما إبطال نسبي، أطلق عليه اسم الإحباط مجازًا، وليس هو إحباطًا حقيقة؛ لأنَّه إذا خرج من النار وأُدخل الجنة عاد إليه ثواب عمله، وهذا بخلاف قول الإحباطية الذين سَوَّوا بين الإحباطَيْن، وحكموا على العاصي بحكم الكافر، وهم معظم القدرية، والله الموفق.
          قوله: (وَقَالَ إِبْرَاهِيْمُ التَّيْمِيُّ) هو من فقهاء التابعين وعُبَّادهم.
          وقوله: (مُكَذَّبًا (1) ) يروى بفتح الذال، يعني: خشيت أن يكذبني من رأى عملي مخالفًا لقولي فيقول: لو كنتَ صادقًا ما فعلت خلاف ما تقول، وإنَّما قال ذلك لأنَّه / كان يَعِظُ الناس.
          ويروى بكسر الذال (2) ، وهي رواية الأكثر، ومعناه: أنَّه مع وعظه الناس لم يبلغ غاية العمل، وقد ذمَّ الله من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر وقصَّر في العمل، فقال: {كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} [الصف:3] فخشي أن يكون مكذِّبًا أي: مشابهًا للمكذبين.
          وهذا التعليق وَصَلَه المصنف في «تاريخه» عن أبي نعيم، وأحمد بن حنبل في «الزهد» عن ابن مهدي كلاهما عن سفيان الثوري عن أبي حيان التَّيْمي عن إبراهيم المذكور.
          قوله: (وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ.....إِلَى آَخِرِهِ).
          هذا التعليق وصله ابن أبي خَيْثَمَةَ في «تاريخه» لكن أَبْهَمَ العدد، وكذا أخرجه محمد بن نصر المروزي مطولًا في كتاب «الإيمان» له، وعَيَّنَه أبو زرعة الدمشقي في «تاريخه» من وجه آخر مختصرًا كما هنا.
          والصحابة الذين أدركهم ابن أبي مُلَيكة من أَجَلِّهِم: عائشة، وأختها أسماء، وأم سلمة، والعبادلة الأربعة، وأبو هريرة، وعقبة بن الحارث، والمِسْوَر بن مَخْرَمة، فهؤلاء ممن سمع منهم، وقد أدرك بالسن جماعة أجلَّ من هؤلاء: كعلي بن أبي طالب، وسعد ابن أبي وقاص.
          وقد جزم بأنَّهم كانوا يخافون النفاق في الأعمال، ولم ينقل عن غيرهم خلاف ذلك، فكَأنَّه إجماع وذلك لأنَّ المؤمن قد يعرض له في عمله ما يشوبه مما يخالف الإخلاص، ولا يلزم من خوفهم من ذلك وقوعه منهم بل ذلك على سبيل المبالغة منهم في الورع والتقوى ♥.
          وقال ابنُ بَطَّالٍ: إنَّما خافوا لأنَّهم طالت أعمارهم حتى رأوا من التغيير ما لم يعهدوه ولم يقدروا على إنكاره، فخافوا أن يكونوا (3) داهنوا بالسكوت.
          قوله: (مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ) وفي هذه إشارة إلى أنَّ المذكورين كانوا قائلين بتفاوت درجات المؤمنين في الإيمان، خلافًا للمرجئة القائلين: بأنَّ إيمان الصديقين وغيرهم بمنزلة واحدة، وقد روي في معنى أثر ابن أبي مُلَيْكة حديثٌ عن عائشة مرفوعٌ؛ رواه الطبراني في «الأوسط» لكن إسناده ضعيف.
          قوله: (وَيُذْكَرُ عَنِ الْحَسَنِ) هذا التعليق وصله جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ فِي كِتَابِ «صفة المنافق» له / من طرق متعددة بألفاظ مختلفة، وقد يُستشكل ترك البُخَارِيِّ الجزم به مع صحته عنه، وذلك محمول على قاعدة ذكرها لي شيخنا أبو الفضل بن الحسين الحافظ ☼، وهي: أنَّ البُخَارِيَّ لا يخصُّ صيغة التمريض بضعف الإسناد، بل إذا ذكر المتن بالمعنى أو اختصره أتى بها أيضًا لما عَلِم من الخلاف في ذلك، فهنا كذلك، وقد أوقع اختصاره له لبعضهم الاضطراب في فهمه، فقال النووي: قوله: (مَا خَافَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ وَلَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِقٌ) يعني: اللهَ تعالى.
          قال الله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46] . وقال: {فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ } [الأعراف:99] . وكذا شرحه ابن التين وجماعة من المتأخرين، وقرره الكِرْمَانِيُّ هكذا فقال: (مَا خَافَهُ) أي ما خاف من الله، فحذف الجارَّ وأوصل الفعل إليه.
          قلت: وهذا الكلام وإن كان صحيحاّ لكنه خلاف مراد المصنف ومن نقل عنه، والذي أوقعهم في هذا هو الاختصار وإلا فسياق كلام الحسن البَصْرِيِّ يبين (4) أنَّه إنَّما أراد النفاق، فلنذكره.
          قال جَعْفَرٌ الْفِرْيَابِيُّ: حَدَّثَنَا قتيبةُ، حَدَّثَنَا جعفرُ بن سُلَيْمَانَ، عن الْمُعَلَّى بن زياد: سَمِعْتُ الْحَسَنَ يَحْلِفُ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ بِاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا مَضَى مُؤْمِنٌ قَطُّ وَلَا بَقِيَ إِلَّا وَهُوَ مِنَ النِّفَاقِ مُشْفِقٌ، وَلَا مَضَى مُنَافِقٌ قَطُّ وَلَا بَقِيَ إِلَّا وَهُوَ مِنَ النِّفَاقِ آمِنٌ، وَكَانَ يَقُولُ: مَنْ لَمْ يَخَفِ النِّفَاقَ فَهُوَ مُنَافِقٌ.
          وقال أحمد بن حنبل في كتاب «الإيمان»: حدثنا رَوْح بن عُبَادة، حدثنا هشام: سمعت الحسن يقول: وَاللهِ مَا مَضَى مُؤْمِنٌ وَلَا بَقِيَ إِلَّا وَهُوَ يَخَافُ النِّفَاقَ، وَمَا أَمِنَهُ إِلَّا مُنَافِق. انتهى.
          وهذا موافق لأثر ابن أبي مُلَيْكة الذي قبله، وهو قوله: (كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ) والخوف من الله وإن كان مطلوبًا محمودًا لكن سياق الباب في أمر آخر، والله أعلم.
          قوله: (وَمَا يُحَذَّرُ) هو بضم أوله وتشديد الذال، و(مَا) مصدرية، والجملة في محل جر؛ لأنَّها معطوفة على خوف، أي: باب ما يحذر، وفَصَل بين الترجمتين بالآثار التي ذكرها لتعلُّقِها بالأولى على ما سنوضحه، ففيه لَفٌّ ونَشْر غير مرتب.
          ومراده أيضًا: / الردُّ على المرجئة، حيث قالوا: لا حذر من المعاصي مع حصول الإيمان، ومفهوم الآية التي ذكرها يردُّ عليهم (5) بأنَّه تعالى مدح من استغفر لذنبه ولم يصرَّ عليه، فمفهومه ذمُّ من لم يفعل ذلك، وكأن المصنف لَمَّحَ بحديث عبد الله بن عمرو الْمُخَرَّج عند أحمد مرفوعًا قال: ((وَيْلٌ لِلْمُصِرِّينَ الَّذِينَ يُصِرُّونَ عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ)) أي: يعلمون أنَّ من تاب (6) تاب الله عليه ثم لا يستغفرون، قاله مجاهد وغيره، وللترمذي عن أبي بكر الصديق مرفوعًا: ((مَا أَصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإِنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبْعِينَ مَرَّةً)). إسناد كل منهما حسن.
          قوله: (عَلَى التَّقَاتُلِ) كذا في أكثر الروايات، وهو المناسب لحديث الباب، وفي بعضها: <عَلَى النِّفَاقِ> ومعناه صحيح وإن لم تثبت (7) به الرواية.


[1] في الأصل: ((وكذب)).
[2] قوله: ((ويروى بكسر الذال)) ليس في الأصل.
[3] في الأصل: ((يكذبوا)).
[4] في الأصل: ((تبين)).
[5] في الأصل: ((يرد علي عليهم)).
[6] في الأصل: ((مات)).
[7] في الأصل: ((يثبت)).