النكت على صحيح البخاري

باب قول النبي: أنا أعلمكم بالله

          ░13▒ قَوْلُهُ: (بابُ: قَوْلِ النَّبِيِّ صلعم) هو مضافٌ بلا تردُّد.
          قَوْلُهُ: (أَنَا أَعْلَمُكُمْ) كذا في رواية أَبِي ذَرٍّ، وهو لفظ الحديث الذي أورده في جميع طرقه، وفي رواية الأَصِيْلِيِّ: <أَعْرَفُكُمْ> وكَأنَّه مذكور بالمعنى حملًا على ترادفهما، وهو ظاهر هنا، وعليه عمل المصنف.
          قَوْلُهُ: (وَأَنَّ الْمَعْرِفَةَ) بفتح (أَنَّ)، والتقدير: باب بيان أَنَّ المعرفة، وورد بكسرها، وتوجيهه ظاهر.
          قَوْلُهُ: (لِقَوْلِهِ تَعَالَى) مراده: الاستدلال (1) بهذه الآية على أنَّ الإيمان بالقول وحده لا يتم إلا بانضمام الاعتقاد إليه، والاعتقاد فعل القلب.
          وقَوْلُهُ: ({بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة:225]) أي: بما استقر فيها، والآية وإن وردت في الأَيمان _بالفتح_ فالاستدلال بها في الإِيمان _بالكسر_ واضح للاشتراك في المعنى؛ إذ مدار الحقيقة فيهما على عمل القلب، وكأنَّ المصنف لمَّح بتفسير زيد بن أسلم، فإنَّه قال في قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ...} قال: هو كقول الرجل: إن فعلت كذا فأنا / كافر، قال: لا يؤاخذه الله بذلك حتى يَعْقِدَ به قلبه.
          فظهرت المناسبة بين الآية والحديث، وظهر وجه دُخُولهما في مباحث الإيمان، فإنَّ فيه دليلًا على بُطلان قول الكراميَّة: إنَّ الإيمان قول فقط، ودليلًا على زيادة الإيمان ونقصانه؛ لأنَّ قوله صلعم: (أَنَا أَعْلَمُكُمْ بِاللهِ) ظاهر في أن العلم بالله درجات، وأنَّ بعض الناس فيه أفضل من بعض، وأن النبي صلعم منه في أعلى الدرجات، والعلم بالله يتناول ما بصفاته وما بأحكامه وما يتعلق بذلك، فهذا هو الإيمان حقًا.
          فائدة:
          قال إمَّام الحرمين: أجمع العلماء على وجوب معرفة الله تعالى، واختلفوا في أول واجب، فقيل: المعرفة، وقيل: النظر.
          وَقَالَ الْمُقْتَرِحُ: لا اختلاف فإنَّ أول واجب خطابًا ومقصودًا المعرفة، وأول واجب اشتغالًا وأداءً القصد إلى النظر، وفي نقل الإجماع نظر كبير ومنازعة طويلة، حتى نقل جماعة الإجماع في نقيضه، واستدلوا بإطباق أهل العصر الأول على قبول الإسلام ممن دخل فيه من غير تنقيب، والآثار في ذلك كثيرة جدًا.
          وأجاب الأوَّلون عن ذلك بأنَّ الكفار كانوا يذبُّون عن دينهم ويقاتلون عليه، فرجوعهم عنه دليل على ظهور الحق لهم، ومقتضى هذا أن المعرفة المذكورة يُكْتَفَى فيها بأدنى نظر بخلاف ما قرَّروه، ومع ذلك فقول الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم:30] وحديث: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفطْرَة)) ظاهران في دفع هذه المسألة من أصلها.
          وقد نقل القدوة أبو محمد بن أبي جمرة، عن أبي الوليد الباجي، عن أبي جعفر السِّمناني _وهو من كبار الأشاعرة_ أنَّه سمعه يقول: إنَّ هذه المسألة من مسائل المعتزلة بقيت في المذهب، والله المستعان.
          وقال النووي: في الآية دليل على المذهب الصحيح أنَّ أفعال القلوب يُؤاخذ بها إذا استقرت، وأمَّا قَوْلُهُ صلعم: ((إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ)) فمحمول على ما إذا لم يستقر.
          قلت: ويمكن أن يُستدل لذلك من عموم قوله: (أَوْ تَعْمَل) لأنَّ / الاعتقاد هو عمل القلب.


[1] في الأصل: ((للاستدلال)).