النكت على صحيح البخاري

باب من قال: إن الإيمان هو العمل

          ░18▒ قَوْلُهُ: (بَابُ: مَنْ قَالَ) هو مضاف حتمًا.
          قَوْلُهُ: (الإِيمَانَ هُوَ العَمَلُ) مطابقة الآيات والحديث لمَّا ترجم له بالاستدلال بالمجموع على المجموع؛ لأنَّ كل واحد منهما دالٌّ بمفرده على بعض الدعوى.
          فقوله: {بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف:43] عام في الأعمال، / وقد نقل جماعة من المفسرين هنا أن قوله: {تَعْمَلُونَ} معناه: تؤمنون، فيكون خاصًا، وقوله: {عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر:93] خاص بعمل اللسان على ما نقل المؤلف، وقوله: {فَلْيَعْمَل الْعَامِلُونَ} [الصافات:61] عامٌّ أيضًا.
          وقَوْلُهُ في الحديث: (إِيمَانٌ بِاللهِ) في جواب: (أَيُّ العَمَلِ أَفْضَلُ؟) ذلك على أن الاعتقاد والنطق من جملة الأعمال.
          فإن قيل: الحديث يدل على أنَّ الجهاد والحج ليسا من الإيمان لمَّا تقتضيه (ثُمَّ) من المغايرة والترتيب.
          فالجواب: أنَّ المراد بالإيمان هنا: التصديق، وهذه حقيقته، والإيمان_كما تقدَّم_ يطلق على الأعمال البدنية؛ لأنَّها مكملاته.
          قَوْلُهُ: (أُورِثْتُمُوها) أي: صُيرت لكم إرثًا، وأطلق الإرث مجازًا عن الإعطاء لتحقق الاستحقاق. و(ما) في قوله: (بما) إمَّا مصدرية أي: بعملكم، وإمَّا موصولة أي: بالذي كنتم تعملونه، والباء للملابسة أو للمقابلة.
          فإن قيل: كيف الجمع بين هذه الآية وحديث: ((لَنْ يَدْخُلَ أَحَدُكُمُ الْجَنَّةَ بِعَمَلِهِ)).
          فالجواب: أنَّ المنفي في الحديث دخولها بالعمل المجرَّد عن القبول، والمثبت في الآية دخولها بالعمل المتقبَّل (1) ، والقبول إنَّما يحصل برحمة الله، فلم يحصل الدخول إلا برحمة الله، وقيل في الجواب غير ذلك كما سيأتي عند إيراد الحديث المذكور.
          قَوْلُهُ: (وَقَالَ عِدَّةٌ) أي: جماعة من أهل العلم، منهم أنس بن مالك، روينا حديثه مرفوعًا في «الترمذي» وغيره، وفي إسناده ضعف، ومنهم ابن عمر، روينا حديثه في «التفسير» للطبري و«الدعاء» للطبراني، ومنهم مجاهد، رويناه عنه في «تفسير عبد الرزاق» وغيره.
          قَوْلُهُ: (لَنَسْأَلَنَّهُم....إلى آخره).
          قال النووي: معناه عن أعمالهم كلها، أي: التي يتعلق بها التكليف، وتخصيص ذلك بالتوحيد دعوى بلا دليل.
          قلت: لتخصيصهم وجه من جهة التعميم في قوله: {أَجْمَعِيْنَ} [الحجر:92] فيدخل فيه المسلم والكافر، فإنَّ الكافر مخاطب بالتوحيد بلا خلاف، بخلاف باقي الأعمال ففيها الخلاف، فمن قال: إنَّهم مخاطبون يقول: إنَّهم مسؤولون عن الأعمال كلها، ومن قال: إنَّهم غير مخاطبين يقول: إنَّما يُسألون عن التوحيد فقط فالسؤال عن التوحيد متفق عليه، فحمل الآية عليه أولى، بخلاف الحمل / على جميع الأعمال لما فيه من الاختلاف، والله أعلم.
          قَوْلُهُ: (وَقَالَ) أي: الله ╡: {لِمِثْلِ هَذَا} [الصافات:61] أي: الفوز العظيم. {فَلْيَعْمَل الْعَامِلُونَ} أي: في الدنيا، والظاهر: أنَّ المصنف تأوَّلها بما تأوَّل به الآيتين المتقدمتين، أي: فليؤمن المؤمنون، أو يُحمل العمل على عمومه؛ لأنَّ مَن آمن لابدَّ أن يُقبل، ومن قُبل فمن حقِّه أن يعمل، ومن عمل لابد أن ينال، فإذا وصل قال: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَل الْعَامِلُونَ} [الصافات:61].
          تنبيه:
          يحتمل أن يكون قائل ذلك المؤمن الذي رأى قرينه، ويحتمل أن يكون كلامه انقضى عند قوله: {الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [الصافات:60] والذي بعده ابتداءً من قول الله ╡، لا حكايةً عن قول المؤمن، ولعل هذا هو السِّرُّ في إبهام المصنف القائل، والله أعلم.


[1] في الأصل: ((المتقيد)).