النكت على صحيح البخاري

باب كفران العشير وكفر دون كفر

          ░21▒ قَوْلُهُ: (بَابُ: كُفْرَانِ الْعَشِيرِ وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ).
          قال القاضي أبو بكر بن (1) العربي في «شرحه»: مراد المصنف أن يُبيِّن أن الطاعات كما تُسمَّى إيمانًا كذلك المعاصي تسمى كفرًا، لكن حيث يُطلق عليها الكفر لا يُراد به الكفر الْمُخْرِج من الملة.
          قال: وخصَّ كفران العشير من بين أنواع الذنوب لدقيقة بديعة، وهي قَوْلُهُ صلعم: ((لَوْ أَمَرْتُ أَحَدًا أَنْ يَسْجُدَ لِأَحَدٍ لَأَمَرْتُ الْمَرْأَةَ أَنْ تَسْجُدَ لِزَوْجِهَا)) فقرنَ حقَّ الزوج على الزوجة بحق الله، فإذا كفرت المرأة حق زوجها وقد بلغ من حقه عليها هذه الغاية كان ذلك دليلًا على تهاونها بحق الله، فلذلك أطلق عليها الكفر، لكنه كفر لا يُخرج عن الملة.
          وأمَّا قول المصنف: (وَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ) فأشار بذلك إلى أثر رواه أحمد في «كتاب الإيمان» من طريق عطاء بن أبي رباح وغيره.
          وقَوْلُهُ: (فِيْهِ أَبُو سَعِيْدٍ) / أي يدخل في الباب حديث رواه أبو سعيد، وفي رِوَايَةِ كَرِيمَةَ: <فِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ> أي مروي عن أبي سعيد.
          وفائدة هذا: الإشارة إلى أنَّ للحديث طريقًا غير الطريق المساقة، وحديث أبي سعيد أخرجه المؤلف في الحيض وغيره من طريق عياض بن عبد الله عنه، وفيه قَوْلُهُ صلعم للنساء: ((تَصَدَّقْنَ فَإِنِّي رَأَيْتُكُنَّ أَكْثَرَ أَهْلِ النَّارِ)). فقلن: وبِمَ يا رسول الله؟ قال: ((تُكْثِرْنَ اللَّعْنَ وَتَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ...)) الحديث.
          ويُحتمل أن يُرِيد بذلك: حديث أبي سعيد أيضًا: ((لَا يَشْكُرُ اللهَ مَنْ لَا يَشْكُرُ النَّاسَ)) قاله القاضي أبو بكر المذكور، والأول أظهر وأجرى على مألوف المصنف، ويعضده إيراده لحديث ابن عباس بلفظ: (ويَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ).
          وَالْعَشِيرُ: الزوج، قيل له عشير بمعنى مُعاشر، مثل: أكيل بمعنى مُؤاكل، وحديث ابن عباس المذكور طرف من حديث طويل أورده المصنف في باب صلاة الكسوف بهذا الإسناد تامًا، وسيأتي الكلام عليه ثَمَّ.
          وننبه هنا على فائدتين:
          إحداهما: أنَّ البُخَارِيَّ يذهب إلى جواز تقطيع الحديث إذا كان ما يفصله منه لا يتعلق بما قبله ولا بما بعده تعلُّقًا (2) يُفضي إلى فساد المعنى، فصنيعه لذلك يُوهم من لا يحفظ الحديث أنَّ المختصر غير التام، لا سيما إذا كان ابتداء المختصر من أثناء التام، كما وقع في هذا الحديث، فإنَّ أوله هنا قوله صلعم: (أُرِيتُ النَّارَ..) إلى آخر ما ذكر منه، وأول التام عن ابن عباس قال: ((خَسَفَتِ الشَّمْسُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صلعم...)) فذكر قصة صلاة الكسوف، ثم خطبة النبي صلعم، وفيها القَدْر المذكور هنا.
          فمن أراد عدَّ الأحاديث التي اشتمل عليها الكتاب يظن أنَّ هذا الحديث حديثان أو أكثر لاختلاف الابتداء، وقد وقع في ذلك من حكى أنَّ عدته بغير تكرار أربعة آلاف أو نحوها كابن الصلاح والشيخ محيي الدين ومن بعدهما، وليس الأمر كذلك، بل عدَّتُه على التحرير ألفا حديث وخمس مائة حديث وثلاثة عشر حديثًا كما بينت ذلك مفصلًا في مقدمة «الشرح الكبير».
          الفائدة الثانية: تقرَّر أنَّ البُخَارِيَّ لا يعيد الحديث / إلا لفائدة، لكن تارة يكون في المتن، وتارة يكون في الإسناد، وتارة فيهما، وحيث تكون في المتن خاصة لا يعيده بصورته بل يتصرَّف فيه، فإن كثرت طرقه أورد لكل باب طريقًا، وإن قلت اختصر المتن أو الإسناد، وقد وقع ذلك في هذا الحديث، فإنَّه أورده هنا عن عبد الله بن مَسْلَمة_وهو القَعنَبِي_ مختصرًا مقتصرًا على مقصود الترجمة كما تقدمت الإشارة إليه من أنَّ الكفر يُطلق على بعض المعاصي، ثم أورده في الصلاة في باب: من صلى وقُدَّامه نار، بهذا الإسناد بعينه، لكنه لمَّا لم يُغاير اقتصر على مقصود الترجمة منه فقط، ثم أورده في صلاه الكسوف بهذا الإسناد فساقه تامًا، ثم أورده في بدء الخلق في ذكر الشمس والقمر عن شيخ غير القَعْنَبِيِّ مقتصرًا على موضع الحاجة، ثم أورده في عِشْرة النساء عن شيخ غيرهما عن مالك أيضًا، وعلى هذه الطريقة يُحمل جميع تصرفه، فلا يُوجد في كتابه حديث على صورة واحدة في موضعين فصاعدًا، والله الموفق.
          وسيأتي الكلام على ما تضمنه حديث الباب من الفوائد حيث ذكره تامًا إن شاء الله تعالى.


[1] قوله: ((بن)) ليس في الأصل.
[2] في الأصل: ((معلقًا)).