التلويح شرح الجامع الصحيح

باب قول الله تعالى: {من بعد وصية يوصى بها أو دين}

          ░8▒ بَابُ تَأوِيلُ قَولِهِ تَعَالَى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ }:[النساء:12].
          وَيُذْكَرُ «أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الوَصِيَّةِ».
          هذا التعليق رواه الترمذي من حديث أَبي إسحاقَ، عن الحارثِ، عن عليٍّ: «قضى محمد صلعم أنَّ الدَّينَ قَبلَ الوَصيَّة، وأنتم تقرؤون الوصيةَ قبل الدَّيْن». الحديث. وقال: لا نعرفه إلا من حديث أبي إسحاق، وقد تكلم بعض أهل العلم في الحارث.
          قال البخاري: وَقَوْلِهِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا}[النساء:58]؟ وأَدَاءُ الأَمَانَةِ أَحَقُّ مِنْ تَطَوُّعِ الوَصِيَّةِ.
          نزلت هذه الآية الكريمة في عثمان بن طلحة، قبض النبي صلعم مفتاح الكعبة، فدخل الكعبة يوم الفتح، فخرج وهو يتلو هذه الآية، فدفع إليه المفتاح، ذكره الواحدي في «الأسباب» عن مجاهد.
          قال البخاري: وقال النبي صلعم: «لا صدقة إلا عن ظهر غنى» هذا التعليق تقدم من عنده مسنداً.
          قال البخاري: وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: «لَا يُوصِي العَبْدُ إِلَّا بِإِذْنِ أَهْلِهِ».
          هذا التعليق رواه ابن أبي شيبة عن أبي الأحوص، عن شبيب بن غَرْقَدَة، عن جندب، قال: سأل طهمانُ ابنَ عباس: أيوصي العبدُ؟ قال: لا، إلا بإذن أهله.
          قال البخاري: وَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: «العَبْدُ رَاعٍ فِي مَالِ سَيِّدِهِ».
          هذا التعليق تقدم عنده مسندًا في كتاب الصلاة من حديث ابن عمر، وحديثُ حكيمٍ تقدَّم في الزكاة ودخوله هنا _قال ابن منير_ من وجهين:
          الأول: زهَّده في قبول العطية، وجعل يدَ آخذها السُّفلى تنفيرًا عن قبولها، ولم يَرِد مثل هذا فِي تعاطي الدَّين. فالحاصل أَنَّ قابضَ الوصِيَّة يدُه السُّفْلى، وقابضَ الدَّيْن اسْتِيفَاء لحقه، إِمَّا أَن تكون يَده العليا؛ لِأَنَّهُ المتفضِّل، وَإِمَّا أَن تكون يَده السُّفْلى. هَذَا أقلُّ حَاْلَتَيْه، فتحقق تَقْدِيم الدَّيْن على الوَصِيَّة بذلك.
          الآخرُ ذكره المُهلب، وَهُوَ أَنَّ عمر اجْتهد أَن يُوفيَه حَقَّه فِي / بَيت المَال، وَبَالغ فِي خلاصه من عُهدته. وهذا ليس دَيْنًا، ولكن فيه شَبَهٌ بالدَّيْن لكونه حَقًّا في الجُملة.
          قال ابن المنيِّر: والوَجْه الأول أقوى في مَقصُود البُخارِي.
          قال المهلب: وأما حديث: «العَبْدُ رَاعٍ» فوجه دخوله هنا أنَّه لمَّا كان العبد مسترعىً في مال سيِّده صحَّ أنَّ المال للسَّيِّد، وأنَّ العبد لا ملك له فيه، فلم تجز وصيةُ العبدِ بغير إذن سيِّده، كقول ابن عبَّاس، وأشبه في هذا المعنى المُوصِي الذي عليه الدَّين، فلم تنفذ وصيَّتُه إلا بعد قضاء دينه؛ لأنَّ المال الذي بيده إنَّما هو لصاحب الدَّيْن، ومسترعىً فيه، ومسؤولٌ عن رعيَّته، فلم يَجُز له تفويته على ربِّه بوصيَّة أو غيرها، إلَّا أن يبقى منه بعد أداء الدَّيْن بقية، كما أنَّ العبد مسترعىً في مال سيِّده، ولا يجوز له تفويته إلَّا بإذنه، فاتَّفقا على الحكم؛ لاتِّفاقهما في المعنى.
          قال ابن المنيِّر: حديث العبد أصل يندرج تحته مقصود التَّرجمة؛ لأنه لما تعارض في ماله حقُّه وحقُّ السَّيِّد قُدِّم الأقوى وهو حقُّ السَّيِّد، وجُعل العبد مسؤولًا عنه مؤاخذًا بحفظه، وكذلك حقُّ الدَّين لمَّا عارضه حقُّ الوصيَّة، والدَّين واجب والوصيَّة تطوُّع، وجب تقديمه.