مصابيح الجامع

باب شهادة القاذف والسارق والزاني

          ░8▒ (بابُ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ وَالسَّارِقِ وَالزَّانِي) ((ثم قال بعد كلام طويل: وكيف تعرف توبته))؟ وهذا كالترجمة المستقلة المعطوفة، ثمَّ بين كيفيةَ المعرفة بالتوبة بتغريبِ من يُغَرَّب مدةً معلومة، ويهجر: أن الثلاثة مدةٌ معلومةٌ حتى تتحقق التوبة، ويحسن الحال.
          وسأل ابنُ المنير فقال: ليس مجرد الغربة عاماً توبةً توجِب قبولَ الشهادة (1) / باتفاق، فكيف يتجه كلام البخاري؟
          وأجاب: بأنه (2) أراد: أن الحال تتغير في السنة، وتنتقل إلى حال لا تحتاج معها إلى تغريبٍ، وكأنها مَظِنةٌ لكسر سورة النفس وهيجانِ الشهوة، ثم لا غربةَ عليه بعدها، فدل ذلك على أن الحال قابلة لتغير الأحكام، يردُّ بذلك على مَنْ زعم أن التوبة لا تُقبل باعتبار الشهادة، وإنما تُقبل باعتبار زوال اسم الفسق، وما فيه صريح الرد على الشافعي، بل ساق البخاريُّ الآثارَ الدالةَ على أن القاذف لا بدَّ في توبته من إكذابه نفسَه (3)، والآثار الدالةُ على عدم الاحتياج لذلك، وجعلها مسألة نظرية، والأدلةُ فيها متعارضة، لكن الصَّحيح بعد ذلك أن إكذابَه لنفسه لا يشترط.
          ألا ترى أنه لو كان صادقاً في نفس الأمر، كيف يجوز له إكذابُ نفسه، وهو حينئذٍ كاذبٌ في إكذابِ نفسهِ؟ فعلى هذا ينسدُّ على الصادقِ في قذفه باب التوبة.
          ثم سأل فقال: إن كان صادقاً في قذفه، فمِمَّ يتوب إذن؟
          وأجاب: بأنه يتوب من الهَتْك، ومن التحدُّث (4) بما رآه، وقد ستره الله، وأما إن كان كاذباً في قَذْفه، فإنه يتوبُ من البهتان، وقولُه تعالى: {فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النور:13]؛ أي: هم المكذَّبون في حكم الله، عليكم أن تكذِّبوهم، وإن كانوا صادقين في نفس الأمر؛ لأنَّ علينا أن نبني على ظاهر السلامة والسِّتر والصيانة للمسلم، سواء وافقنا العلمَ، أو خالفناه؛ كما نكذِّبُ المدَّعِيَ إلا (5) ببينة، وإن كان صادقاً في علمِ الله تعالى.
          قلت: دعوى المدَّعي خبرٌ يحتمل الصدقَ والكذب، فليس لنا أن نكذِّبَه ولا نصدِّقَه بالتشهِّي، وليس طلبُنا منه البينةَ على صحة دعواه دليلاً على تكذيبنا له فيها. ففيما قاله نظر.
          وقال البخاري (6) بأثر الباب قبل الترجمة الثانية المذكورة:
          (وَجَلَدَ عُمَرُ أَبَا بَكْرَةَ وَشِبْلَ بْنَ مَعْبَدٍ وَنَافِعاً بِقَذْفِ الْمُغِيرَةِ، ثُمَّ اسْتَتَابَهُمْ، وَقَالَ: مَنْ تَابَ، قُبِلْتُ شَهَادَتَهُ) قال الطبري: كان المغيرة والياً على البصرة، وله مشربةٌ تقابل مشربة أبي بكرَة، ولكل من المشرُبتين كوَّةٌ تقابل كوَّةَ الأخرى (7)، فكان مع أبي بكرة في مشربته نافعُ بنُ كَلَدَة، وشبلُ بنُ معبد، وزيادٌ أخو أبي بَكْرة لأمه يتحدَّثون، فصفقَتِ الريحُ بابَ كوته، فقام ليصفقها، فبصر بالمغيرة؛ لفتحِ الريح بابَ كوةِ مشربته بينَ رِجْلَي امرأةٍ توسَّطَها، فقال للنفر (8) : قوموا انظروا واشهدوا، فنظروا فقالوا: من هذه؟ فقال: أم جميل بنتُ الأفقم، كانت تعشقُ المغيرةَ وأشرافَ الأمراء، فلما تقدَّم المغيرة للصلاة، منعه أبو بكرة.
          وبلغ الأمرُ عمرَ، فأشخصهم، وبعث أبا موسى والياً على البصرة، فلمَّا حضروه (9)، قال المغيرة: يا أمير المؤمنين، سل هؤلاء الأعبد: كيف رأوني، وهل عرفوا المرأة؟ فإن كانوا مستقبليَّ فكيف (10) استتروا؟ وإن كانوا مستدبريَّ فبأيِّ شيءٍ استحلوا النظر إليَّ على امرأتي؟ والله، ما كانت إلا زوجتي، وهي تُشبهها.
          فبدأ عمرُ بأبي بكرة، فشهد أنه رآه بين رجلَي أُمِّ جميل، وهو يُدخله ويخرجه كالميلِ في المُكْحلة، قال: كيف رأيتهما؟ قال: مستدبرهما، فقال: كيف استبنت رأسها؟ قال: تحاملْتُ حتى رأيتُها.
          ثم شهد شبلٌ، ونافعٌ كذلك.
          وشهد زيادٌ بأن قال: رأيته بين رجلَي امرأةٍ، وقدماها مخضوبتان تخفقان، واستين مكشوفتين، وحَفَزاناً (11) شديداً. قال: هل رأيتَ كالميل في المكحلة؛ قال: لا، قال: هل تعرف المرأة؟ قال: لا (12)، ولكن أُشَبِّهُها، قال له: تنحَّ، وأمر بالثلاثة فجُلدوا، وتلا قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ}الآية[النور:13].
          فقال المغيرة: اشفني من الأَعْبُد يا أمير المؤمنين. فقال له: اسكتْ أسكتَ الله نَأْمَتَكَ، والله! لو تمَّت الشهادةُ؛ لرميتُك بأحجارِك.
          قال الطبري: وردَّ عمرُ شهادتهم، ثم استتابهم، فتابَ نافعٌ وشبلٌ، وقبلَ شهادَتَهما، واستتاب أبا بكرة، فأبى. /
          قال غيره: قال له: تُبْ، وأقبلُ شهادتك، فأبى، وكرَّر شهادته.
          قال شيخنا أبو عبد الله بن عرفة: وإلى هذه الآية أشار ابنُ التلمساني في مسألة الإجماع السكوتي في «شرح المعالم» بقوله: كقول عليٍّ لعمرَ ☻ لما رأى جلدَ أبي بكرة: إن جلدته، فارجم صاحبك.
          وكان شيخُنا ابنُ عبد السلام ☼ يستشكل (13) صحَّة الملازمة في قول عليٍّ مع قبول عمرَ له، ويحكي استشكاله عن شيخه أبي الحسن البوذري، وكانت له مشاركةٌ حسنةٌ في الأصلين، ولم يجيبا عنه بشيء.
          وكان يجري لنا جوابه بما أقوله: وهو أن القذف الموجبَ للحدِّ قسمان:
          قذفٌ صدرَ من قائله على وجه التنقيص للمقذوف، وقذفٌ صدرَ على وجهِ شهادةٍ لم تَتِمَّ، وهو الواقع في النازلة، فلما كرر أبو بكرة شهادته، أراد عمرُ جلدَه للقذفِ بقوله هذا، فقال له عليٌّ: إن جلدته، فارجمْ صاحبك؛ أي: إن أردتَ جلدَه، لزم إرادتَك رجمُ صاحبك (14)؛ لأن إرادة جلده إما أن تكون لسابق شهادته من حيث كونُه أحدَ الثلاثة، أو لشهادته لا من حيث كونُه أحدَ الثلاثة (15)، فإن كان الأول، لم يُحدَّ؛ لأنه قد حُدَّ لها، وإن كان لا من حيثُ كونُه أحدَ الثلاثة؛ لزم كونه من حيث هو زائداً عليها، وكلُّ ما كان زائداً عليها كان رابعاً، وكلُّ ما كان رابعاً؛ لزم تمام النصاب، فيجب حَدُّ المغيرة.
          وهذا التقدير يدلُّ على صحة قول ابن الماجشون: بصحَّة افتراق (16) بينة الزنا في الأداء، وأن تمام النصاب بمن يجبُ قبولُه ولو بعدَ حَدِّ مَنْ لم يكمُلِ النصابُ به يوجِب (17) حَدَّ المشهود عليه، والخلاف في المسألة معروف.
          قلت: حاصلُ ما ذكره الشيخ: بيانُ الملازمة في القضية الشرطية، وهي: إن جلدته، فارجمْ صاحبَك، يعني: والتالي منتفٍ، فالمقدَّمُ مثله، فذكرَ بيانَ الملازمة لخفائها، وسكتَ عن بيان انتفاء التالي لوضوحه (18).
          (وَنَهَى عَنْ كَلَامِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ) هما هِلالُ (19) بنُ أُميَّةَ، ومُرارَةُ بنُ الرَّبيعِ، وإذا جعلتَ أسماءَهم مرتبةً على هذا النمط: مرارة بن الربيع (20)، كعب بن مالك، هلال بن أمية، اجتمع من أول أسمائهم على الترتيب لفظُ: ((مكة))، ومن آخر أسماء آبائهم لفظ: ((عكة)).


[1] في (ق): ((قبول التوبة)).
[2] في (ق) زيادة: ((إنما)).
[3] في (د): ((بنفسه)).
[4] في (د) و(ج): ((التحديث)).
[5] ((إلا)): ليست في (ق).
[6] ((البخاري)): ليست في (ق).
[7] في (م): ((بكيرة)).
[8] في (ق): ((فقال البصر)).
[9] في (د) و(ج): ((أحضروه)).
[10] في (ق) زيادة: ((لم)).
[11] في (د): ((وجواباً)).
[12] ((هل تعرف المرأة قال لا)): ليست في (ق).
[13] في (ج): ((استشكل)).
[14] من قوله: ((أي إن أردت... إلى... قوله: صاحبك)): ليس في (د) و(ج).
[15] ((أو لشهادته لا من حيث كونه أحد الثلاثة)): ليست في (د).
[16] في (ج): ((اقتران)).
[17] في (ق): ((لوجب)).
[18] في (د): ((لخروجه)).
[19] في (د) و(ج): ((بلال)).
[20] من قوله: ((وإذا جعلت... إلى... قوله: الربيع)): ليس في (د) و(ج).