غاية التوضيح

باب ما جاء في عذاب القبر

          ░86▒ (بابُ ما جاءَ في عذابِ القَبْرِ)
          قد تظاهرتِ الدَّلائلُ من الكتابِ والسُّنَّةِ على ثبوتِهِ، وأجمعَ عليهِ أهلُ السُّنَّةِ، ولا مانعَ في العقلِ أن يعيدَ اللهُ ╡ الحياةَ في جزءٍ من الجسدِ، أو في جميعِهِ، على الخلافِ المعروفِ، فيعذِّبَهُ، ولا يمنعُ من ذلكَ كونُ الميِّتِ قد تفرَّقت أجزاؤهُ، أو أكلَهُ السِّباعُ والطُّيورُ، فيجوزُ تعلُّقُ روح الشَّخصِ الواحدِ في آنٍ واحدٍ بكلِّ واحدٍ من أجزائهِ المتفرِّقةِ في المشارقِ والمغاربِ، فإنَّ تعلُّقَهُ ليس على سبيلِ الحلولِ، حتَّى يمنعَه الحلولُ في جزئهِ من الحلولِ في آخر.
          والتَّشكُّلُ: أنَّه إذا ثبتَ حياتُهم؛ لزمَ أن يثبتَ موتُهم بعد موتِةِ هذه الحياةِ؛ ليجتمعَ الخلقُ كلُّهم في الموتِ عندَ قولِهِ: {لِّمَنِ الْمُلْكُ} [غافر:16]، ولزمَ تعدُّدُ الموتِ، وقد قالَ اللهُ تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} [الدُّخان:56
          وأجيب: بأنَّ معنى قولِهِ تعالى: {فِيهَا الْمَوْتَ} [الدُّخان:56]؛ أي: ألمَ الموتِ، فيكون الموتُ الَّذي يعقبُ الحياةَ الأخرويَّةَ بعدَ الموتِ الأوَّلِ لا يُذاقُ ألمُهُ ألبتَّةَ.
          قولُهُ: {وَلَوْ تَرَى} [الأنعام:93] جوابُه محذوف؛ أي: لو ترى زمان غمراتهم لرأيتَ أمرًا قطعيًّا، والغمراتُ الشَّدائد.
          قولُهُ: {وَالْمَلَائِكَةُ} [الأنعام:93] أي: والحالُ أنَّ الملائكةَ {بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ} [الأنعام:93] بقبضِ أرواحِهم / أو بالعذابِ، يقولونَ لهُم: {أَخْرِجُوا أَنفُسَكُمُ} [الأنعام:93] إلينا؛ تغليظًا عليهم، فقد وردَ أنَّ أرواحَ الكافرينَ تتفرَّقُ في أجسادِهم، وتأبى الخروجَ، فتضربُهم الملائكةُ، وفي «المقاصدِ»: (يقولونَ لهم: أخرجوا أنفسَكم من العذابِ إن قدرْتم على ذلكَ؛ توبيخًا لهم).
          قولُهُ: {الْيَوْمَ} [الأنعام:93] أي: وقت الإماتة، أو الوقت الممتدُّ من الإماتةِ إلى ما لا نهايةَ لهُ.
          قولُهُ: {الْهُونِ} [الأنعام:93] بضمِّ الهاءِ: الهوان الذِّلَّة.
          قولُهُ: {مَّرَّتَيْنِ} [التوبة:101] أي: القتل في الدُّنيا، وعذابُ القبرِ في الآخرةِ، {ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ} [التوبة:101] في جهنَّمَ.
          قولُهُ: {النَّارُ يُعْرَضُونَ} [غافر:46] جملةٌ مستأنفة، أو {النار} بدلٌ من {سوء العذاب}، و{يُعرَضونَ} حالٌ، روى ابنُ مسعودٍ ╩ أنَّ أرواحَهم في أجوافِ طيورٍ سودٍ، تُعرَضُ على النَّارِ بكرةً وعشيًّا، فقالَ لها: هذهِ دارُكم، رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ، قالَ القرطبيُّ: الجمهورُ على أنَّ هذهِ العرض في البرزخِ، وفيهِ دليلٌ على بقاءِ النَّفسِ، وعذاب القبرِ، وهذهِ الآيةُ المكيَّةُ أصلٌ في الاستدلالِ لعذابِ القبرِ، لكن استشكلَ معَ الحديثِ المرويِّ في «مسندِ الإمامِ أحمد» بإسنادٍ صحيحٍ على شرطِ الشَّيخَينِ: إنَّ يهوديَّةً في المدينةِ كانت تعيذُ عائشةَ ╦ من عذابِ القبرِ، فسألَت عنهُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّم، فقالَ: «كذبَ يهود، لا عذابَ دونَ يومِ القيامةِ»، فلمَّا مضى بعضُ أيَّامٍ؛ نادى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وصحبِهِ وسلَّم، محمرًّا عيناهُ، بأعلى صوتِهِ: «أيُّها النَّاسُ؛ استعيذوا باللهِ من عذابِ القبرِ، فإنَّه حقٌّ»؟
          وأجيب: بأنَّ الآيةَ دلَّت على عذابِ الأرواحِ في البرزخِ، وما نفاهُ أوَّلًا ثمَّ أثبتَهُ ╕ عذابَ الجسدِ فيهِ، والأَولى أن يقالَ: الآيةُ دلَّت على عذابِ القبرِ للكفَّارِ، وما نفاهُ ثمَّ أثبتَهُ عذابَ القبرِ للمؤمنينَ؛ كذا في «القسطلانيِّ».