غاية التوضيح

كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

          ♫
          ░░1▒▒ (بابُ كَيْفَ كانَ)
          يجوز في (باب) الرفع مَعَ التنوين، وبدونه على الإضافة على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوف؛ أي: هذا بابٌ، ولا بدَّ مِن تقدير المضاف؛ أي: باب جواب كيف كان؛ لأنَّ المذكور في هذا الباب هو جواب كيف كان بدء الوحي، لا السؤال بـ(كيف) عن بدء الوحي، واعتُرِضَ على المصنِّف، بأنَّه لم يفتتح الكتاب بالحمد والشهادة، امتثالًا بقوله صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم: «كلُّ أمر ذي بالٍ لا يبدأ فيه بحمد الله فهو أقطع» وقوله: «وكلُّ خطبة(1) ليس فيها شهادة فهي كاليد الجزماء» أخرجها أبو داود وغيره.
          أجيب: بأنَّ الحديثين ليسا على شرطه، بل في كلٍّ منهما مقالٌ، سلَّمنا صلاحيتهما(2) للحجَّة، لكن لا نسلِّم عدم الافتتاح بهما، فلعلَّه حمد وتشهَّد نطقًا عند الافتتاح، وإن لم يكتبهما، وبأنَّ التسمية مشتملة على الحمد والثناء، ولفظ الشهادة إنَّما يحتاج إليه في الخطبة، دون الرسائل والوثائق، فكأنَّ المصنِّف لمَّا لم يفتح كتابه بخطبة، أجراه مجرى الرسالة إلى أهل العلم؛ لينتفعوا بما فيه تعلُّمًا وتعليمًا، وممَّا يؤيِّد أنَّ تعيين لفظ الحمد ليس بمراد ذكر الله تعالى والثناء عليه؛ أنَّه وَرد في «جامع الخطيب» مرفوعًا: «كلُّ أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع» وفي روايةٍ: «لا يفتح بذكر الله فهو أبتر أو أقطع» وأنَّ أوَّل شيء نزل مِن القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق:1] ووقوع كتب رسول الله صلَّى الله تعالى عليه وآله وصحبه وسلَّم إلى الملوك، وكتبه في القضايا مفتحةٌ بالتسمية فقط.
          واعلم: أنَّه قد استقرَّ عمل الأئمَّة المصنِّفين على افتتاح كتب العلم بالبسملة وكذا / معظم كتب الرسائل، واختلف القدماء فيما إذا كان الكتاب شعرًا، فجاء عن الشعبيِّ منع ذلك، وعن الزهريِّ قال: مضت السنَّة ألَّا يكتب في الشعر بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، وعن سعيد بن جُبَير جواز ذلك، وتابعه على ذلك الجمهور، وقال الخطيب: هو المختار.
          قوله: (بَدْءُ الوَحْي) روي بالهمز مع سكون الدال؛ بمعنى: الابتداء، وبغير همزٍ مع ضمِّ الدال وتشديد الواو؛ بمعنى: الظهور.
          قوله: (وَقَوْلِ اللهِ) بالجرِّ عطفٌ على (كيف)، وبالرفع عطف على لفظِ (البدوُّ).
          قوله: ({إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية [النساء:163]) ذكر المصنِّف الآية الكريمة لأنَّ عادته أن يستدلَّ للترجمة بآيةٍ أو حديثٍ أو غيرهما، فأراد أنَّ الوحي سنَّة الله تعالى في أنبيائه، قيل: إنَّما قدَّم ذكر نوح في الآية مع كون آدم أوَّل الأنبياء؛ لأنَّ نوحًا أوَّل أُولِي العزم، أو أوَّل نبيٍّ عُوقِب قومه، فخصَّصه به تهديدًا لقومِ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وصحبه وسلَّم، و(الوحي) في الأصل: الإعلام في خفاء، وقيل: الإعلام بسرعةٍ، وفي الاصطلاح: كلام الله المنزَّل على نبيٍّ مِن أنبيائه، كذا في «الكرمانيِّ».
          قوله «القَسْطَلانِيُّ»: هو في اصطلاح الشرع إعلام الله تعالى أنبياءه الشيء، إمَّا بكتابه أو برسالة مَلَك أو منامٍ أو إلهام، وقد يُطلق على الوحي كالقرآن والسنَّة مِن إطلاق المصدر على المفعول.
          واعلم أنَّه يكفي أن يدلَّ ما في الباب بجملته على الترجمة، ولا يلزم أن يدلَّ كلَّ حديثٍ يُذكَر في الباب عليها، فلا يرد أنَّ أوَّل حديثَي عائشة ╦ لا يدلُّ على كيفيَّة بدء الوحي، بل على كيفيَّة نفس الوحي، ولعلَّه إنَّما أورد ههنا حديث «إنَّما الأعمال بالنيَّة» تنبيهًا على أنَّه ينبغي لكلِّ شارعٍ في هذا الكتاب وغيره أن يقصد به التقرُّب إلى الله تعالى، ولا يضيِّع أوقاته، لكنَّ المناسب حينئذٍ أن يذكره قبل الترجمة، قيل في وجه المناسبة: أنَّ الكتاب لمَّا كان موضوعًا لجمع وحي السنَّة؛ صدَّره ببدوِّ الوحي، ولمَّا كان الوحي لبيان الأعمال الشرعيَّة؛ صدَّره بحديث الأعمال.
          ثمَّ اعلم أنَّ ميل البخاريِّ كما سيذكر في (كتاب العلم) ألَّا تفاوت بين لفظ الحديث والسماع والإخبار والإنباء، والجمهور قالوا: أعلى الدرجات سمعته وحدَّثنا، ثمَّ أخبرنا، مَن فرَّق أيضًا بين المفرد والجمع.


[1] في الأصل: (خطيئة).
[2] في الأصل: (صلاحيتها).