التلويح شرح الجامع الصحيح

باب قيام النبي بالليل ونومه وما نسخ من قيام الليل

          ░11▒ بَابُ قِيَامِ النَّبِيِّ صلعم بِاللَّيْلِ ونَوْمِهِ، وَمَا نُسِخَ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ
          وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا المُزَّمِّلُ}.. إلى قوله... {سَبْحًا طَوِيلًا}[المزمل:1-7].
          وَقَوْلُهُ ╡: { عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ..} إلى قوله: {وَأَعْظَمَ أَجْرًا}[المزمل:20].
          قال أبو بكر الأُدْفوي: للعلماء في قوله: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}[المزمل:2] أقوال:
          منها: أن قوله: {قُمِ اللَّيْلَ} ليس معناه الفرض، يدل على ذلك أن بعده قوله جلَّ وعزَّ: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}[المزمل:3] وليس كذلك يكون الفرض، وإنما هو ندب.
          قال: وقيل: حتم.
          قال: والقول الثالث: أن يكون فرضًا على النبي صلعم وحده / ، روي ذلك عن ابن عباس.
          قال: وقال ابن سيرين والحسن: صلاة الليل فريضة على كل مسلم، ولو قَدْرَ حَلْبِ شاةٍ، انتهى.
          في «المصنف»: حدَّثنا هشيم: أخبرنا أبو عامر المزني، عن الحسن قال رسول الله صلعم: «صلوا من الليل أربعًا، صلوا ولو ركعتين».
          قال: وحدَّثنا هشيم أخبرنا يونس عن الحسن قال النبي صلعم: «رحم الله رجلًا قام من الليل فأيقظ أهله» الحديث.
          وحدَّثنا هشيم أخبرنا أبو الأشهب عن الحسن أنه قال: «صلوا من الليل ولو قَدرَ حَلْبِ شاة».
          وحدَّثنا أبو أسامة عن هشام عن محمد أنه كان يستحبُّ ألا يَترُكَ الرجل قيام الليل، ولو قَدْرَ حَلْبِ شاةٍ. انتهى.
          فينظر، كأن هذا اللفظ لا يدل على فريضة ولا وجوب؛ لكن روينا في كتاب «الثواب» لآدم من حديث ابن لهيعة، عن مخرمة عن أبي الأخنس، عن ابن عباس: ذكروا قيام الليل عند النبي صلعم فقال: «صلوا نصفه أو ثلثه أو ربعه، فواق ناقة أو حلب شاة».
          فلو صح لكان فيه شائبة من الوجوب.
          قال القاضي إسماعيل بن إسحاق: أحسبهما قالا ذلك لقوله تعالى: {فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}[المزمل:20].
          وفي «تفسير ابن عباس»: «قُمِ اللَّيلَ، قُمِ اللَّيلَ كلَّه إلا قليلًا منه، فاشتدَّ ذلك على النبي صلعم وعلى أصحابه وقاموا الليل كله، ولم يعرفوا ما حد القليل، فأنزل الله تعالى: {نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا}[المزمل:3] فاشتدَّ ذلك أيضًا على النبي صلعم وعلى أصحابه، فقاموا الليل كله حتى انتفخت أقدامهم، وذلك قبل الصلوات الخمس، ففعلوا ذلك سنة فأنزل الله تعالى ناسختها فقال: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ}[المزمل:20] يعني: قيام الليل من الثلث والنصف».
          وفي «المعاني» للفراء: اجتمع القراء على تشديد المزمل والمدثر، وكان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس، فلما فرضت الخمس نسخت هذا كما نسخت الزكاة كل صدقة، وصوم رمضان كلَّ صوم.
          وفي «تفسير الجوزي»: كان الرجل يسهر طوال الليل مخافة أن يقصر فيما أُمِر به من قيام ثلثي الليل أو نصفه أو ثلثه، فشق عليهم ذلك، فخفف الله تعالى عنهم بعدُ بسنة ونسخ وجوب التقدير بقوله: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ} أي / : صلوا ما تيسر من الصلاة ولو قدر حلب شاة، ثم نسخ وجوب قيام الليل بالصلوات الخمس بعد سنة أخرى، فكان بين الوجوب والتخفيف سنة، وبين الوجوب والنسخ بالكلية سنتان.
          وفي كتاب «الناسخ والمنسوخ» لأبي جعفر النحاس: الذي أخبرنا به جماعة من شيوخنا عن أشياخهم عن أبي الطاهر الثَّغْري الحافظ قال: أخبرنا به محمد بن بركات النَّحْوي بمصر: أخبرنا طاهر بن أحمد بن بَابَشاذ: أخبرنا أبو الحسن علي بن إبراهيم الحَوْفي: أخبرنا أبو بكر الأدفوي: أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل النَّحَّاس، قال ابن بركات: وقد رأيت الحَوْفي قال: وأما سورة المزمل فمكيَّة سوى آيتين منها، فإنهما نزلتا بالمدينة، وهما قوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ}[المزمل:20] إلى آخرها فيها موضعان.
          فقوله: {قُمِ اللَّيْلَ} جاز أن يكون ندبًا وحضًّا، وأن يكون حتمًا وفرضًا، غير أن بابه أن يكون حتمًا وفرضًا، إلا أن يدل دليل على غير ذلك، والدلائل تقوي أنه كان حتمًا وفرضًا، وذلك أن الندب والحض لا يقع على بعض الليل دون بعض؛ لأن قيامه ليس مخصوصًا به في وقت دون وقت، وأيضًا فقد جاء التوقيف بما سنذكره، وجاز أن يكون هذا حتمًا وفرضًا على النبي صلعم وحده، وجاز أن يكون عليه وعلى أمته، فجاء التوقيف بأنه كان عليه وعلى المؤمنين ثم نسخ.
          فذكر حديث عائشة الذي عند مسلم قالت: «إنَّ الله تعالى افترضَ القيام في أول: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}[المزمل:1] على النبي صلعم وعلى أصحابه حولًا حتى انتفخت أقدامهم، وأمسك الله ╡ اثني عشر شهرًا، ثم أنزل التخفيف في أخرها فصار قيام الليل تطوعًا بعد أن كان فريضة».
          وعن ابن عباس: «لما نزلت [أول]: {يَاأَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ}، كانوا يقومون نحوًا من قيامهم في شهر رمضان، حتى نزل آخرها، وكان بين أولها وآخرها نحو من سنة».
          وفي رواية عطاء الخراساني عنه: «لما قَدِمَ النبي صلعم المدينة نسختها هذه الآية الكريمة: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ}[المزمل:20] إلى آخرها».
          وقال الشيخ أبو الحسن علي بن محمد بن محمد بن موسى بن إبراهيم الخزرجي المعروف بابن الحصَّار في كتابه «الناسخ والمنسوخ» الذي أنبأنا به أبو محمد النصري، عن أبي عبد الله القرطبي عنه قال: وأما سورة المزمل فمكية / باتفاق.
          قال: وزعم بعض الناس أن المنسوخ طول القيام، وأن القيام اليسير لم ينسخ، واحتج بقوله تعالى: {فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ}، قال أبو الحسن: والآية محتملة، والمعتمد على قول عائشة، فصار قيام الليل تطوعًا بعد فريضة.
          وقد زعم الفقيه أبو بكر أن النبي صلعم لم ينسخ عنه فرض قيام الليل، وظاهر القرآن العظيم والحديث يدلَّان على تسوية الجميع.
          وقد قيل: إنَّ آخرَ السورة نزل حين افترض الله تعالى الصلوات الخمس بمكة _شرَّفها الله تعالى_ وقد اختلف في وقت فرض الصلوات من بعد البعث بستة أشهر إلى قبل الهجرة بستة أشهر، وأصحَّ ما في ذلك حديث ابن عباس: أن ذلك كان قبل الهجرة بعام، والله تعالى أعلم.
          وقال ابن عباس: نشَأَ قام بالحبشيَّة.
          هذا التعليق رواه عبد بن حميد الكَّجِّي في «تفسيره» بسندٍ صحيحٍ عن عبيد الله بن موسى، عن إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: {إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} قال: هو بكلام الحبشيَّة: نشأ قام.
          وأخبرنا عبد الملك بن عمرو عن رافع بن عمرو، عن ابن أبي مليكة، سُئِلَ ابن عباس عن قوله تعالى: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} فقال: أيُّ الليل قمتَ فقد أنشأت.
          وفي كتاب «الإعراب» لابن أبي خيثمة: ومن خطِّ الصُّولي حدَّثنا أبي وعبد الله بن محمد، قالا: حدَّثنا وكيع، عن إسرائيل عن أبي إسحاق، عن سعيد بن جبير: قال هو بلسان الحبشيَّة إذا قام نشأ.
          وفي «تفسير ابن عباس» رواية إسماعيل بن أبي زياد: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} ساعات الليل.
          وفي تفسير عبدٍ عن أبي ميسرة قال: هو بكلام الحبشيَّة نشأ قام.
          وعن أبي مالك: قيام الليل بلسان الحبشة ناشئة.
          وعن قتادة والحسن وأبي مِجْلَز: كل شيء بعد العشاء ناشئة.
          وقال مجاهد: إذا قمتَ من الليلِ تُصلِّي فهو ناشئة، وفي رواية: أيَّ ساعة تهجَّد فيها.
          وقال معاوية بن قرة: هي قيام الليل.
          وعن عاصم: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} مهموزة الياء، {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا}[المزمل:6] بنصب الواو وجزم الطاء من معنى المواطأة.
          وفي «المعاني» للفراء: وقد اجتمع القرَّاء على نصب الواو من وَطِئًا، وقرأ بعضهم: / {هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا} بكسر الواو ومده، يريد أشد علاجًا ومواطأة، وأما الوَطء فلا وِطء، لم نروه عن أحد من القرَّاء.
          وفي «المعاني» للزجاج: [أشد] وطئًا أي: أشد مواطأة للقلب، ومن قرأ: {وَطْئًا} بفتح الواو فمعناه هي أبلغ في القيام وأبين في القول، ويجوز أن يكون أشد.
          وفي «المجاز» لأبي عبيدة: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} آناء الليل، ناشئةً بعد ناشئة.
          وفي «المنتهى» لأبي المعالي: {نَاشِئَةَ اللَّيْلِ} أول ساعاته، ويقال: أول ما ينشأ من الليل من الطاعات وهو النَّشيئة.
          وفي «المحكم»: الناشئة أوَّل النهار والليل، وقيل: الناشئة والناشئة إذا نِمتَ من أول الليل نومة ثم قمتَ.
          وفي كتاب الهروي: كل ما حدث بالليل وبدأ فهو ناشئ وقد نشأ، والجمع ناشئة.
          وفي «تفسير عبد» عن قتادة: {أَشَدُّ وَطْئًا}أثبت في الخير.
          {وَأَقْوَمُ قِيلًا}: أحفظ في الحفظ.
          وعن مجاهد: {وَطْئًا} مواطأة للقول، وفراغًا للقلب، وفي رواية: أن يواطئ سمعُك وبصرُك وقلبُك بعضه بعضًا، {وَأَقْوَمُ قِيلًا} أثبت للقراءة.
          وعن الحسن: {وَأَقْوَمُ قِيلًا} أبلغ في الخير، وأمنع من هذا العدو.
          وقوله: {سَبْحًا طَوِيلًا} قال ابن عباس في رواية الكلبي عن أبي صالح عنه: السبح الفراغ للحاجة والنوم.
          وعن أبي مالك ومجاهد والربيع بن أنس وقتادة: {سَبْحًا طَوِيلًا}، فراغًا طويلًا.
          وفي كتاب الفراء: يقول: لك في النهار ما تقضي حوائجك، وقد قرأ بعضهم: ▬سبخًا↨ بالخاء، والتسبيخ: توسعة القطن والصوف.
          قال أبو عبيد الله السِّمَّري: حضرَ مجلسَ الفرَّاء يومَ أَمْلَى علينا هذا أبو زياد الكلابي، فسأله الفراء عن هذا الحرف فقال: أهل باديتنا يقولون: اللهم سبخ عنه، للمريض ونحوه والملسوع.
          وقال الزَّجَّاج: القراءة بالحاء غير معجمة، وقد قرئت بالخاء معجمة.