التلويح شرح الجامع الصحيح

سورة البقرة

          ░░░1▒▒▒ [سورة البقرة]
          حدثنا شجاع عن ليث بن أبي سليم، عن مجاهد: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}[البقرة:238]، قال: «من القنوت: الركوع والسجود وخفض الجناح وغض البصر من رهبة الله جل وعز».
          وعن جابر بن زيد: «الصلاة كلها».
          وحديث زيد بن أرقم تقدم في الصلاة، وكذا قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا}[البقرة:239].
          قال البخاري ☼: وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: {كُرْسِيُّهُ}[البقرة:255]، عِلْمُهُ.
          هذا التعليق رواه عبد بن حميد عن الحسن بن موسى، عن يعقوب، عن جعفر عن سعيد به.
          ورواه ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الأشج: حدَّثنا ابن إدريس، عن مُطرِّف بن طَريف، عن جعفر بن [أبي] المغيرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس: { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ}[البقرة:255] قال: «علمه».
          قال البخاري ☼: {بَسْطَةً}[البقرة:247]: زِيَادَةً وَفَضْلًا.
          اللفظة الأخيرة ذكرها ابن أبي حاتم عن ابن عباس بسند فيه ضعف.
          قال البخاري ☼: {يَؤودُهُ}: يُثْقِلُهُ.
          هذه أيضًا ذكرها عن ابن عباس بسند جيد: «ولفظه لا يثقل عليه»، وعن مجاهد: «لا يكرهه حتى يُثْقِلَه»، وعن أبي العالية والضحاك ومكحول والسُّدي والرَّبيع والحسن وقتادة أنهم قالوا: «لا يَثْقُلُ عليه جمعها»».
          وفي «تفسير عبد» أن الحسن وقتادة: «لا يَثْقُلُ عليه شيء» ... صلعم، تقدم ذكره.
          وكذلك الشك في إبراهيم صلعم.
          وقول البخاري ☼:
          وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {صَلْدًا}[البقرة:264]: لَيْسَ عَلِيْهِ شَيءٌ.
          رواه ابن أبي حاتم عن أبي زُرْعة: حدَّثنا مِنْجاب بن الحارث، أنبأنا بشر، عن أبي رَوْق، عن الضَّحاك، عن ابن عباس بلفظ: «فتركه يابسًا خاسئًا لا ينبت شيئًا».
          وَقَالَ عِكْرِمَةُ: {وَابِلٌ}: مَطَرٌ شَدِيدٌ.
          ذا التعليق رواه عبد، عن رَوح، عن عثمان بن غياث قال / : سمعت عكرمة به.
          قوله جل وعز: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} إلى قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}[البقرة:266] قال جار الله الزمخشري: همزة {أَيَوَدُّ} للإنكار، وقرئ: «له جنات»، «وذرية ضعاف»، والواو في «وأصابه الكبر» واو الحال، معناه: أيود أحدكم أن تكون له جنة وقد أصابه الكبر.
          وقد يقال: وددت أن يكون كذا، ووددت لو كان كذا، فحمل العطف على المعنى كأنه قال: أيود لو كانت له جنة وأصابه الكبر.
          وذكر السدي في هذا مثل لنفقة الرياء: أنه ينفق ماله يرائي به الناس، فيذهب ماله منه، فلا يأجره الله تعالى فيه، فإذا كان يوم القيامة واحتاج إلى جنته جاءت ريح فيها السموم فأحرقت جنته، فلم يجد فيها شيئًا، فكذلك الرياء.
          وعن مجاهد: مثَّله بالمفرِّط في طاعة الله جلَّ وعزَّ حتى يموت كمثل هذا حين احترقت جنته وهو كبير، لا يغني عنها شيئًا، كذلك المفرِّط بعد الموت كل شيء عليه حسرة.
          قال الطبري: وهذا القول أقرب إلى الصواب، وأحسن إبانة للمعنى.
           وخصَّ النخل والعنب بالذكر لشرفهما وفضلهما على سائر الشجر؛ وذلك أن النخل سُمي بذلك _فيما ذكره الراغب_ لأنه معمول الأشجار وصفوها وأكرم ما ينبت، ولا يشبه الحيوانات في الاحتياج إلى التلقيح، ولأن رأسه إذا قطعت لم يثمر بعد.
          والحديث الذي ذكره البخاري ⌂ عن ابْن عَبَّاسٍ: «ضُرِبَتْ مَثَلًا لِيعمَل، قَالَ عُمَرُ بن الخطاب: لِرَجُلٍ غَنِيٍّ يَعْمَلُ بِطَاعَةِ الله، ثُمَّ بَعَثَ الله ╡ لَهُ الشَّيْطَانَ، فَعَمِلَ بِالمعَاصِي حَتَّى أَغْرَقَ بالمعاصي» [خ¦4538].
          ذكر أبو مسعود هذا الكلام في مسند ابن عباس، وفي مسند ابن عمر أسعد.
          وعن.. وما رأيت أحد من أهل العلم......... / وهذا لا أعلم فيه خلافًا.
          وذكر البخاري ⌂ حديث أبي هريرة مرفوعًا: «لَيْسَ المِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَاللُّقْمَةُ واللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا المِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ، اقْرَؤوا إِنْ شِئْتُمْ، يَعْنِي قَوْلَهُ: {لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}[البقرة:273[خ¦4539].
          عن ابن أبي مريم: حدَّثنا محمد بن جعفر: حدَّثني شَريك، أن عطاء بن يسار وعبد الرحمن بن أبي عَمْرة حدثناه عنه.
          والقائل _يعني لما أخبره_ هو سعيد بن الحكم بن أبي مريم، ذكره الإسماعيلي وأبو نعيم في «مستخرجهما» من طريق الحسن بن سفيان قال: «قلت لابن أبي مريم: ما نقرأ _يعني في قوله: «واقرؤوا إن شئتم» قال: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا}[البقرة:273] الآية».
          قال الإسماعيلي: حديث إسماعيل بن جعفر
_ يعني المذكور عنده، وإن كان عن عطاء وحده _فإنه أولى بالتفسير الذي أراده في هذا الباب_؛ لإتيانه بالآية في الرواية تصحيحًا لما قاله.
          وحديث محمد بن جعفر الذي رواه هو هكذا، وهو من «تفسير ابن أبي مريم»، كما ذكرته. واستدل ابن حزم بهذا الحديث على أن المسكين الذي له أدنى شيء لا يقوم بحاله يصبر ولا يسأل.
          وقال أبو الفرج: قد جعل في هذا الحديث من لا يسأل أعظم حاجة من السائل.
          ذكر الربا [خ¦4540]، تقدم.
          قوله جلَّ وعزَّ: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}[البقرة:280].
          اختلف أهل العلم في هذه الآية، فذكر الواحدي أن بني عمرو قالوا لبني المغيرة: «هاتوا رؤوس أموالنا، فقالت بنو المغيرة: نحن اليوم أهل عُسْرَة، فأخِّروا إلى أن تدرك الثمرة، فأبوا أن يُؤَخِّروهم / فنزلت».
          وقرأها نافع: «ميسُرة» بضم السين، والباقون بفتحها.
          وزعم ابن عباس وشُريح أن الإنظار في دين الربا خاصة واجب.
          وعند الطبري عن قتادة: {فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}: برأس ماله.
          وقال أبو جعفر محمد: يعني الموت.
          وعن إبراهيم النخعي: في الرجل يتزوج إلى ميسرة؟ قال: إلى الموت، أو قال: فُرْقة.
          وقال مجاهد: يؤخره ولا يزد عليه، قال: كان إذا حل دين بعضهم فلم يجد ما يعطيه؛ زاد عليه وأخَّره.
          وقال النحاس: عارض قول من قال: إنها في الربا، بأن الربا أُبْطِل فكيف يقال فيه: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ
          واحتج من طريق النحو بأنه لو كان في الربا لكان: وإن كان ذا عُسْرة؛ لأنه قد تقدَّم ذكره فلما كان في السَّواد ذو عسرة عُلِم أنه منقطع من الأول، عام لكل من كان ذا عسرة، وكانت كان بمعنى وَقَعَ وحَدَثَ.
          قال أبو جعفر: هذا ظاهره حسن، وإذا فتشت لم يلزم، لأن قوله: الربا قد أبطله الله صحيح إن أراد ألا يعمل به، وإلا فقد قال: {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ}[البقرة:279] فما الذي يمنع أن يكون الإعسار في مثل هذا؟ وأما النحو فيجوز أن يكون التقدير: وإن كان منهم ذو عسرة، وقد قالوا: المرء مقتول بما قُتِل به، إن حجر فحجر.
          وقيل: إنها ناسخة لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر فيما عليه من الديون وإن كان حرًّا.
          قال الطحاوي: كان الحر يباع في الدين أول الإسلام حتى نسخ ذلك.
          روى الدارقطني من حديث مسلم بن خالد، عن ابن البَيْلَماني _وفيهما كلام_ عن سُرَّق قال: «كان لرجل عليَّ دين، فذهب بي إلى رسول الله صلعم / فلم يجد لي مالًا، فباعني منه».
          وهي عامة في جميع الناس، فكل من أُعْسَر أُنْظِر، وهو قول أبي هريرة والحسن وعامة الفقهاء، قال النحاس: وأحسن ما قيل في الآية قول عطاء والضحاك والربيع بن خُثيم: هي لكل معسر، ينظر في الربا وفي الدين كله.
          وعند القرطبي: مَن كَثُرت ديونه وطلب غرماؤه مالَهم فللحاكم أن يخلعه عن ماله كله إلا ما كان من ضرورته، ويحبس المفلس، وهو قول الشافعي ومالك وأبي حنيفة وغيرهم حتى يتبيَّن عدمه، ولا يُحبس عند مالك إن لم يُتهم أنه غَيَّب مالَه ولم يتبيَّن لَدَده، وكذلك لا يُحبس إن صحَّ عُسره، وذهب الحنفيون إلى أنه يحبس شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه، فإن كان موسرًا نزل في الحبس أبدًا حتى يقضيه، وإن كان معسرًا خُلِّي عنه.
          وروى ابن رستم عن محمد أن المطلوب إذا قال: أنا معسر وأقيم البينة على ذلك، أو قال: فاسأل عني، فلا يُسأل عنه أحدًا بل يحبس شهرين أو ثلاثة ثم يسأل عنه إلا أن يكون معروفًا بالعسر فلا يحبسه.
          وعند الطحاوي: كان متأخروا أصحابنا _منهم محمد بن شجاع_ يقولون: إن كل دين كان أصله من مال وقع في يد المديون كثمن المبيع والعروض ونحوها فإنه يحبسه فيه، وما لم يكن كذلك مثل المهر والجعل من الخلع والصلح من دية العمد والكفالة لم يحبسه حتى يثبت وجوده وملاءته.
          وعند الشافعي: إذا ثبت عليه دين بيع ما ظهر ودُفع لغريمه، وإن لم يظهر يحبس وبيع ما قدر عليه من ماله، فإن ذكر عسرة قبلت منه البينة وأحلف مع ذلك، وأخلي ومنع غرماؤه من لزومه.
          وعند الحنفيين: للطالب أن يلزمه، قال محمد: والملزوم في الدَّين لا يُمنع من دخول منزله للغداء والغائط والبول، فإن / أعطاه الذي يلزمه الغذاء، وموضع الخلاء فله منعه من إتيان منزله، وهو قول الزهري.
          قال أبو الوليد بن رشد: المفلس الذي لا مال له أصلًا أُجمع على أن العُدْمَ له تأثير في إسقاط الدَّين إلى وقت الميسرة، إلَّا ما حُكِي عن عمر بن عبد العزيز أن لهم أن يؤاخروه، وهو قول أحمد بن حنبل، انتهى.
          هو قوله في رواية، وأصحابه يصحِّحون الأوَّل.
          ثم ذكر البخاري ⌂ هنا حديث عَائِشَةَ: «لَمَّا نْزِلَتِ آيَاتُ الربا قَامَ رَسُولُ الله صلعم فَحَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الخَمْرِ» [خ¦4543].
          وقد ذكر الإسماعيلي أنه لم يقف على وجه دخول هذا الخبر في هذا الباب في تفسير الآيات التي ذكرها، انتهى. يشبه أن يقال في العذر للبخاري في إخراجه هذا الحديث: أن هذه الآيات متعلقة بآيات الربا، فالإشارة في ذلك إلى الجميع.
          قوله جلَّ وعزَّ: {وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ}[البقرة:281].
          في «تفسير عبد» عن الضحاك عن ابن عباس: «هي آخر آية نزلت».
          وفي رواية أبي صالح عنه: «نزلت بمكة شرَّفها الله تعالى وتوفي بعدها صلعم بأحد وثمانين يومًا».
          زاد أبو بكر بن المنكدر: هذا مستبعد لما فيه من انقطاع الوحي هذه المدة، انتهى.
          ليس في هذا تعرض للوحي، إذ الوحي يكون بالقرآن، وبغير قرآن هو أعم من ذاك، والله تعالى أعلم.
          وقيل: نزلت يوم النحر بمنى في حجة الوداع.
          وذكر البخاري عن ابْنِ عَبَّاسٍ: «آخِرُ / آيَةٍ نَزَلَتْ آية الربا» [خ¦4544].
          وفي «تفسير ابن أبي حاتم» من حديث ابن لهيعة: حدَّثني عطاء بن دينار، عن سعيد ابن جبير قال: «عاش رسول الله صلعم بعد نزول هذه الآية الكريمة تسع ليال».
          وعند مقاتل: «سبع ليال، وهي آخر آية نزلت».
          وعند القرطبي: «ثلاث ليال»، وقيل: «ثلاث ساعات»، وأنه صلعم قال: «اجعلوها بين آية الربا وآية الدَّين»، وقيل: «إنه صلعم عاش بعدها أحد وعشرين يومًا».
          وروي عن البراء أن آخر آية نزلت: {يَسْتَفْتُوْنَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيْكُمْ فِي الْكَلَالَةِ}[النساء:176]]خ¦4605].
          وقال أُبَي بن كعب: آخر آية نزلت: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُوْلٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ}[التوبة:129].
          وقراءة أبي عمرو «تَرجعون» بفتح التاء وكسر الجيم، والباقون بضم التاء وفتح الجيم، وذهب جمهور المفسرين على أن اليوم المحذر منه هو يوم القيامة، وقال بعضهم: هو يوم الموت.
          قوله جلَّ وعزَّ: { وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَالله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير}[البقرة:284].
          في «تفسير ابن المنذر» عن ابن عباس ومولاه قالا: «نزلت هذه الآية في كتمان الشهادة».
          قال ابن أبي حاتم: وروي عن الشَّعبي ومِقْسَم مثله.
          وفي «صحيح مسلم» عن أبي هريرة: «لما نزلت هذه الآية الكريمة قالت الصحابة: يا رسول الله! كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق، الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أُنزلت هذه الآية ولا نطيقها، فقال صلعم: أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتاب من قبلكم: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذَلَّت بها ألسنتهم / ، فأنزل الله جلَّ وعزَّ: {آمَنَ الرَّسُولُ} إلى: {وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}[البقرة:285]، فلما فعلوا ذلك نسخها الله جلَّ وعزَّ، فأنزل: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} إلى قوله: {أَخْطَأْنَا}[البقرة:286] ».
          وعند الواحدي: الصحابة الذين قالوا ذلك: أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف ومعاذ ابن جبل وناس من الأنصار، فقالوا: ما نزلت آية أشد علينا من هذه، فقال صلعم: «هكذا أُنزلت، قولوا: سمعنا وأطعنا»، فمكثوا بذلك حولًا، فأنزل الله جلَّ وعزَّ الفرج والراحة بقوله: {لاَيُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، فنسخت هذه الآية ما قبلها، فقال صلعم: «إن الله قد تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم يعملوا أو يتكلموا به».
          وفي «تفسير ابن المنذر»: حدَّثنا زكريا: حدَّثنا محمد بن يحيى: حدَّثنا محمد بن يوسف: حدَّثنا سفيان: حدَّثنا موسى بن عبيدة، عن خالد بن زيد، عن محمد بن كعب القرظي قال: «ما بعث الله من نبيٍّ، ولا أرسل من رسول إلا أنزل عليه هذه الآية، فكانت الأمم تأبى على أنبيائها ورسلها، ويقولون: نؤاخذ بما نحدِّث به أنفسنا، ولم تعمل به جوارحنا، فيكفرون ويضلون، فلما نزلت على النبي صلعم واشتد على الصحابة فقال لهم: أتقولون كما قالت أهل الكتاب» الحديث، وفيه: «فلما قالوا: سمعنا وأطعنا، وضع الله جلَّ وعزَّ عنهم حديث النفس إلا ما عملت الجوارح».
          وعند النحاس قال ابن عباس: «هذه الآية لم تنسخ».
          وعن عائشة قالت: «ما همَّ به العبد من خطيئة عوقب على ذلك بما يلحقه من الهم والحزن في الدنيا».
          وقال مجاهد: «هذه الآية في الشك واليقين».
          وقال أبو جعفر: وهذه الأقوال يقرب بعضها من بعض، فقول مجاهد قريب من قول / ابن عباس إنها لم تنسخ، وإنها عامة. وقول ابن عباس إنها في الشهادة يصح على أن غير الشهادة بمنزلتها.
          وقول عائشة ♦ تكون عامة أيضًا، فأما أن تكون منسوخة، فيصح من جهة ويبطل من جهة، فأما الجهة التي تبطل منها، فإن الأخبار لا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ، ومَن زعم أن في الأخبار ناسخًا ومنسوخًا فقد ألحد أو جهل، قد أخبر الله جلَّ وعزَّ بأنه يحاسب من أبدى شيئًا أو أخفاه فمحال أن يخبر بضده، وأيضًا فإن الحكم إذا كان منسوخًا فإنما ينسخ بنفيه، وبآخر ناسخ له نافٍ له من كل جهاته، فلو كان: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} ناسخًا؛ لنسخ تكليف ما لا طاقة به، وهذا منفي عن الله ╡ أن يتعبد به كما قال جلَّ وعزَّ: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا}[الطلاق:7]، وصح عن النبي صلعم أنه كان يُلَقِّن أصحابه إذا بايعوه: «فيما استطعتم» [خ¦7202]. انتهى.
          لقائل أن يقول: إن هذا وإن كان خبرًا فهو خبرٌ عن تكليف ومؤاخذة بما تكن النفوس، والتعبُّد بما أمرهم به صلعم أن يقولوا: سمعنا وأطعنا، وهي أقوال وأعمال اللسان والقلب، ثم نُسِخَ ذلك عنهم برفع الحرج والمؤاخذة.
          قال أبو جعفر: وأما الوجه الذي يصح منه وهو الذي ينبغي أن يُتَبيَّن ويُوقَف عليه؛ لأن المعاند ربما عارض بقول الصحابة والتابعين في أشياء من الأخبار ناسخة ومنسوخة، فالجاهل باللغة إما أن يُحيَّر فيها، وإما أن يُلحِد فيقول في الأخبار ناسخ ومنسوخ، وهو يعلم أن الإنسان إذا قال: قام فلان ثم نُسِخ هذا فقال: لم يقم فقد علم ما ارتكبه.
          قول ابن عباس حين بلغه / أن ابن عمر تلا هذه الآية فدمعت عيناه: «يرحم الله أبا عبد الرحمن صنع كما صنع الصحابة حين أنزلت، ونسختها الآية التي بعدها {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} فنسخ الله الوسوسة، وأثبت القول والفعل».
          وفي رواية عند الطبري: «فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها، وصار الأمر إلى أن قضى الله للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل».
          وفي لفظ: «فنسختها {آمَنَ الرَّسُولُ} إلى قوله: {وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} فَتُجُوِّز لهم من حديث النفس وأُخِذوا بالأعمال».
          وفي «تفسير ابن أبي حاتم» من حديث علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: هذه الآية لم تنسخ، ولكن إذا جمع الله الخلائق يقول: إني أخبركم بما أخفيتم في أنفسكم مما لم يطلع عليه ملائكتي، فأما المؤمنون فيخبرهم ثم يغفر لهم، وأما أهل الريب فيخبرهم بما أخفوا من التكذيب، فذلك قوله: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء}.
          وعند الطبري عنه: «يقول الله جلَّ وعزَّ: إن كُتَّابي لم يكتبوا من أعمالكم إلَّا ما ظهر، وأما ما أسررتموه فأنا أحاسبكم به اليوم».
          قال أبو جعفر: معنى نسختها نزلت بنسختها سواء، وليس هذا من الناسخ والمنسوخ في شيء، وكذا قاله الطبري، وعنه قاله النحاس، ويحتمل أن يكون نسختها نسخت الشِّدة التي لحقتهم أي: إزالتها كما يقال: نسخت الشمس الظل أي: أزالته، ومن حُسن ما قيل في الآية وأشبهه بالظاهر قول ابن عباس: إنها عامة يدل على ذلك حديث ابن عمر في النجوى: «وإن الله يدني المؤمن حتى يضع عليه كنفه، وفيه: فإني سترتها عليك في الدنيا»، وفيه: «فأما الكفَّار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق: هؤلاء الذين كذبوا على الله».
          قال الضحاك: «يعلمه الله بما كان / يسره ليعلم أنه لم يخف عليه».
          قال أبو جعفر: وهو من أحاديث أهل السنة والجماعة وإسناده صحيح لا يدخل القلب منه لبس، وفيه حقيقة معنى الآية، وأنه لا نسخ فيها.
          ولما ذكر ابن الحصار قول أبي هريرة وعلي في نسخ هذه الآية قال: هذه حكاية حال جرت بالمدينة وبعد الهجرة، والآية مدنية بالاتفاق، وإنما أسلم أبو هريرة عام خيبر، وهذا الحكم ثابت في السور المكيَّات؛ بل نسخ حكم الله ╡ الدائم منذ كلف عباده وتعمد خلقه، وهو الذي يقتضيه قوله ╡: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}، والنفس تعم الملَك والجن والإنس.
          ومثله قوله جلَّ وعزَّ: {لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا}[البقرة:233] {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ}[المؤمنون:62]، وقد تكرَّر هذا المعنى في سورة الأنعام وفي سورة الأعراف، وكلها مكيات باتفاق، فهذا الحكم نزل قبل نزول هذه الآية، والآيات متظاهرة في السور المكيَّات والمدنيَّات كما بينَّاه.
          أخبرنا الإمام القدوة أبو الفتح نصر بن سلمان، بن عمر المنبجي إذنًا، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن شجاع القرشي: أخبرنا أبو القاسم هبة الله بن علي الخزرجي: أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن بركات ابن هلال النحوي قال: المنسوخ من الآية الكريمة قوله ╡: {أَوْ تُخْفُوهُ} لا غير.
          وفي «الناسخ» لهبة الله بن سلامة بن نصر قال ابن مسعود: «هي عموم في سائر أهل القبلة».
          ثم إن العلماء اختلفوا في تكليف ما لا يطاق مع تجويزهم إيَّاه عقلًا، هل وقع التعبُّد به في الشريعة أم لا؟
          وزعم المازري أن في تسمية هذا نسخًا نظر؛ لأنه إنما يكون نسخًا إذا تعذَّر البناء، ولم يمكن رد إحدى الآيتين إلى الأخرى، وقوله تعالى: {وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ} عموم يصح أن يشتمل على ما يُمْلَك من الخواطر دون / ما لا يُمْلَك، فتكون الآية الأخرى مخصصِّة إلا أن يكون الصحابة ♥ قد فهموا بقرينة الحال تعبدهم بما لا يدرك من الخواطر فيكون حينئذ نسخًا، لأنه رفع ثابت مستقر.
          قال عياض: هذا كلام ظاهر، لكن فيما لم يرد فيه نص بالنسخ، فإذا ورد وقفنا عنده.
          على أن الأصوليين اختلفوا في قول الصحابي: نُسِخ كذا بكذا، هل يكون حجةً يثبت بها النسخ أم لا؟ وعندي: لا وجه لإبعاد النسخ في هذه القضية، فإن راويها قد روى النسخ، وطريق النسخ إنما الخبر أو التاريخ، وهما مجتمعان في هذه الآية.
          وقال الواحدي: المحققون يختارون أن تكون محكمة.