مصابيح الجامع

باب الخطإ والنسيان في العتاقة والطلاق ونحوه ولا عتاقة

          ░6▒ (بابُ / الْخَطَأ وَالنِّسْيَانِ فِي الْعَتَاقَةِ وَالطَّلاَقِ) قال ابن المنيِّرِ: اشتهر عن مالك ☼ قولان في الطلاق بالنية، والعتق بالنية، فأشكل على كثير قولُ الإلزام بمجرد النية، حتى قال بعضُ أهل المذهب: لا يثبت عن مالكٍ هذا القول إلا مخرَّجاً تخريجاً معترَضاً، فظنَّ (1) هذا القائل أن الناقل تلقى ذلك من مسألة ((من قال: اسقني الماء، ونوى الطلاق أو العتق (2)))، فقال مالك ☼: يلزمه ذلك.
          قال المخَرَّج: وليس هذا لفظاً يتناول عتقاً ولا طلاقاً، فوجودُه كعدمه (3)، فالحكمُ حينئذٍ إنما يحال على النية.
          ورُدَّ هذا التخريج (4) بأن النية هنا صاحَبَها قولٌ اصطلاحيٌّ، وإذا لزمه اصطلاحُ غيره إجماعاً، فاصطلاحُه مع نفسه أجدُر، فلا يؤخذ منه اللزوم بمجرَّدِ النية.
          والصحيح عندنا أن النَّقل ثابتٌ صريحاً (5) عن مالك غير مخرَّجٍ.
          ووجهُ الإشكال الذي حمَلَ المنكرين للنقل على الإنكار: أنَّ النية عبارةٌ عن القصد في الحال، أو العزم في الاستقبال، فكما لا يكون قاصدُ الصلاة مصليًّا حتى يفعلَ المقصود، وكذا قاصدُ الزكاة والنكاحِ، وهَلُمَّ جراً، كذلك ينبغي أن يكون قاصدُ الطلاق.
          ثم قول القائل: ((يقع الطلاق بالقصد))، متدافعٌ، وحاصلُه: يقعُ ما لم يوقعه المكلَّف؛ إذ القصدُ ضرورةً يفتقر إلى مقصود النية (6)، فكيف يكون القصدُ نفسَ المقصود؟ هذا قلبٌ للحقائق، فمن هنا اشتدَّ الإنكار حتى حمل على التأويل أو التوريك في النقل.
          والذي يرفع الإشكال: أن النيةَ التي أُريدت هنا، هي (7) الكلامُ النفسي، والذي (8) يعبَّرُ عنه بقول القائل: أنت طالق، فالمعنى الذي هذا لفظهُ هو المراد بالنية، وإيقاعُ الطلاق على من تكلَّم بالطلاق وأنشأه (9) حقيقةً لا ريب فيه، وذلك أن الكلامَ يُطلق على النفسي حقيقةً، وعلى اللفظي (10)، قيل: حقيقةً، وقيل: مجازاً، ولهذا نقولُ: قاصدُ الإيمان مؤمنٌ؛ أي: المتكلمُ بالإيمان كلاماً نفسيًّا (11) مصدِّقاً عن معتقده مؤمن، ولذلك المعتقدُ الكفرَ بقلبه المصدِّقُ له: كافرٌ، وكذلك عندي المتكلِّم في نفسه بالبيع والشراء (12) أو الإجارة (13) عاقدٌ فيما بينه وبين الله، لكن لا يُتصور لخصمه مطالبته في الدنيا؛ لأنه لا يطَّلع (14) على ذلك.
          وأما المتكلمُ في نفسه بإحرام الصلاة وبالقراءة، فإنما لم يُعَدَّ مصلياً، ولا قارئاً بمجرَّد الكلام النفسيِّ؛ لتعبُّدِ الشرع في هذه المواضع الخاصةِ بالنطق اللفظيِّ، ألا ترى أن المتكلمَ بإحرام الحج في نفسِه محرمٌ، وإن لم يلبِّ؟ وقد نصَّ مالكٌ (15) نصاً لا يُدفع على أن المخَيَّرة إذا تستَّرَتْ، ونقلت قماشها ونحو ذلك، كان ذلك اختياراً للطلاق، وإن لم تتكلم بلفظ؛ لأنها قد تكلمت في نفسها، ونصبَتْ هذه الأفعالَ دلالاتٍ على الكلام النفسي؛ فإنَّ الدليل عليه لا يَخُصُّ (16) النطقَ، بل تدخل فيه الإشاراتُ والنقراتُ والرموزُ والخطوطُ، ولهذا كانت المعاطاة عنده بيعاً؛ لدلالتها على الكلام النفسي عرفاً، فاندفع السؤال، وصار ما كان مشكلاً هو اللائح، وتكون ترجمة البخاري تؤيد قول (17) ابن القاسم في عتق مرزوقٍ بالنية، ولا يعكسُه (18) مع ذلك على عتقِ ناصحٍ باللفظ؛ لأن ابنَ القاسم إنما فرضَ الكلام فيما إذا ضبطت النيةُ اللفظَ، وهذا لا ينبغي أن يُختلف فيه فإن من شهدت عليه بينةٌ بإقرارٍ ونحوه، فادَّعى أنه أخطأ في لفظه، وأنه أراد غيرَ ذلك، لا تُقبل هذه الدعوى منه اتفاقاً، والأصل في الألفاظ أنها منبعثةٌ عن المقصود (19)، غيرَ أن ذلك يُشكل على أصل ابنِ القاسم من وجهٍ آخرَ، وذلك أنه منعَ الشهادةَ على الكلام حتى يستوعبَه الشاهدُ أولَه وآخرَه.
          لكن (20) الفرض أن الشاهد (21) اجتهد في الضبط، فلم يسمع إلا قولَه لناصحٍ عقيبَ قولِ: نعم أنت حر، ولو ضيقنا الفرض بأن نفرضه قال بحضرة البينة: قد عزمتُ على أن أناديَ مرزوقاً فأعتقَه، ثم قال: يا مرزوقُ! فقال ناصح: نعم، فقال: أنت حُر؛ لكان الأظهر هنا أن لا يُعتق إلا مرزوقٌ، لاسيما / إذا زدنا الفرض تضييقاً؛ بأن يقول للبينة: اعلموا أني لا أُعتق (22) إلا مرزوقاً، وإن أجابني غيره، فقلت: إنَّه حر، فإنما أعني مرزوقاً (23)، فهنا لا يُتصور خلافٌ في أنه لا يُعتق إلا مرزوقٌ.


[1] في (ق): ((وظن)).
[2] في (ق): ((ونوى الطلاق والعتق)).
[3] في (ق): ((كعدم)).
[4] في (ق): ((المخرج)).
[5] في (ق): ((ثابت صحيح)).
[6] في (ق): ((إليه)).
[7] ((هي)): ليست في (ج).
[8] في (ق): ((الذي)).
[9] في (د): ((وأشباه)).
[10] في (ق): ((اللفظ)).
[11] في (ق): ((نفسانيا)).
[12] في (ق): ((أو الشراء)).
[13] في (د) و(ج): ((والإجارة)).
[14] من قوله: ((فيما بينه... إلى... قوله: لا يطلع)): ليس في (ق).
[15] في (د): ((وقد قال مالك)).
[16] في (ق): ((يختص)).
[17] في (د) و(ج): ((تؤيد كلام)).
[18] في (ق): ((ولا يذكر))، في (د) و(ج): ((ولا يعكر)).
[19] في (م): ((القصود)).
[20] في (ق): ((ولكن)).
[21] ((أن الشاهد)): ليست في (ق).
[22] من قوله: ((إلا مرزوق... إلى... قوله: لا أعتق)): ليس في (ق).
[23] من قوله: ((وإن أجابني... إلى... قوله: مرزوقاً)): ليس في (د) و(ج).