غاية التوضيح

باب ذكر الجن وثوابهم وعقابهم

          ░12▒ (بابُ ذِكْرِ الجِنِّ وَثَوَابِهِم) في «الكرمانيِّ»: قد جرى بين أبي حنيفة ومالكٍ في المسجد الحرام مناظرةٌ في ثواب الجنِّ، فقال أبو حنيفة: ثوابهم السَّلامة عن العذاب متمسِّكًا بقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأحقاف:31]، وقال مالك: لهم الكرامة بالجنَّة وحكم التَّعليق واحدٌ قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن:46]، وقال: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن:74]، واستدلَّ البخاريُّ على ثوابهم وعقابهم بقوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ} [الأنعام:130]، أما على العقاب فبقوله تعالى: {يُنْذِرُونَكُمْ} [الأنعام:130]، وأمَّا على الثَّواب فبقوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُوا} [الأنعام:132]، وبقوله تعالى: {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا} [الجن:13]، والبخس النَّقص من الثَّواب، في «القسطلانيِّ»: وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: خلق الله تعالى الجنَّ قبل آدم بألفي سنةٍ، وعن أبي هريرة مرفوعًا: «إنَّ الله تعالى الخلق أربعة أصنافٍ الملائكة والشَّياطين والجنَّ والإنس، ثمَّ جعل هؤلاء عشرة أجزاءٍ تسعةٌ منهم ملائكة وجزء واحدٌ الشياطين والجنَّ والإنس، وجعل هؤلاء الثلاثة عشرة أجزاء تسعةٌ منهم الشياطين وواحدٌ الجنَّ والإنس، ثمَّ جعل الجنَّ والإنس عشرة أجزاء تسعة منهم الجنَّ وواحدٌ منهم الإنس»، وعن الشَّافعيِّ ☼ : من زعم أنَّه يرى الجنَّ بطلت شهادته لقوله تعالى: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27]، قال في «الفتح»: وهذا محمولٌ على من يدَّعي رؤيتهم على صورهم الَّتي خُلِقوا عليها، وزعم أنَّه يراهم بعد أن يصوروا على صورة شيء من الحيوان، فقد تواترت الأخبار بتصورهم في صور شيءٍ، فيتصوَّرون في صورة بني آدم كما أتى الشَّيطان قريشًا في صورة سراقة بن مالك، وروى الطَّبرانيُّ بإسنادٍ حسنٍ عن أبي ثعلبه أنَّ النَّبيَّ صلعم قال: «الجنُّ ثلاثة أصنافٍ؛ صنفٌ لهم أجنحةٌ يطيرون في الهواء، وصنفٌ حيَّات، وصنفٌ يحلُّون ويظعنون»، وعن أبي الدَّرداء مرفوعًا: «خلق الله الجنَّ ثلاثة أصنافٍ؛ صنفٌ حيَّات وعقارب، وصنفٌ حشاش الأرض، وصنفٌ كالرِّيح في الهواء، وصنفٌ كبني آدم عليهم الحساب والعقاب»، ثمَّ الصَّحيح الَّذي عليهم الجمهور أنَّهم يأكلون ويشربون، والإجماع على أنَّ نبيَّنا صلعم مبعوثٌ إلى الثَّقلين الجنِّ والإنس، وتمسَّك ثومٌ منهم الضَّحَّاك، وقالوا: بعث إلى كلٍّ من الثَّقلين رسلٌ منهم وأنَّ الله تعالى أرسل إلى الجنِّ رسولًا منهم اسمه يوسف ويدلُّ عليه حديث ابن عبَّاس ☺ عند الحاكم: ومن الأرض مثلهنَّ فإنَّها سبع أرضين في كلِّ أرضٍ نبيٌّ كنبيِّكم، وآدم كآدمكم، ونوحٌ كنوحكم، وإبراهيم كإبراهيمكم، وعيسى كعيسى، قال الذَّهبيُّ:
          إسناده حسنٌ وله شاهدٌ عند الحاكم أيضًا عن ابن عبَّاسٍ في قوله تعالى: {سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطَّلاق:12] فقال: في كلِّ أرضٍ مثل إبراهيم، قال الذَّهبيُّ: حديثٌ على شرط الشَّيخين رجاله أئمَّة، والجمهور على أنَّهم يدخلون الجنَّة ولا يأكلون فيها ولا يشربون بل يلهمون التَّسبيح والتَّقديس، وقال الحارث المحاسبي: نراهم فيها ولا يروننا عكس ما في / الدُّنيا، وقيل: لا يدخلونها بل يكونون في ربضها، وهذا مأثورٌ عن مالكٍ والشَّافعيِّ وأحمد، وقيل: إنَّهم على الأعراف، وتوقَّف بعضهم عن الجواب، إلى هنا كلام القسطلانيِّ.
          قوله: (سَرَوَاتِ الجِنِّ) بفتحاتٍ؛ أي: ساداتهم.