التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة

في وهم رابع في بعض طرق حديث الإفك

           ░5▒ ومنها: أنَّ السياق الذي ذكره البخاريُّ في قضيَّة الإفك في كتاب «المغازي» قال(1) فيه: ودعا رسول الله صلعم بريرة، فقال: «أَيْ بَرِيرَةُ؛ هَلْ رَأَيْتِ مِنْ شَيْءٍ يَرِيبُكِ؟» / فقَالَتْ لَهُ بَرِيرَةُ ♦: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، مَا رَأَيْتُ عَلَيْهَا أَمْرًا قَطُّ أَغْمِصُهُ... الحديث، وكذلك هو أيضًا في «صحيح مسلم» وغيرهما.
          [و](2) أيضًا في عدة طرق أنَّ النَّبيَّ صلعم قال للعبَّاس ☺ : «يَا عَبَّاسُ؛ أَلَاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا؟» ثمَّ قال رسول الله صلعم لها: «لَوْ رَاجَعْتِيهِ» قالت: أتأمرني؟... الحديث، وذلك لمَّا خيَّرها صلعم بعد العتق فاختارت فراقه.
          ووجه هذا الإشكال أنَّ عائشة♦ إنَّما اشترت بريرة بشرط العتق، كما دلَّت عليه الرِّوايات واتَّفق عليه الفقهاء، وأقامت عند عائشة ♦ تخدمها، وقد تقدَّم أنَّ قصَّة الإفك كانت سنة ستٍّ، أو سنة أربع، على قول موسى بن عقبة، ولعلَّ الأوَّل أرجح، وقد كانت بريرة ♦ مقيمة عند عائشة ♦ من قبل ذلك بمدَّة، ولذلك سألها النَّبيُّ صلعم عنها، ومجيء العبَّاس ☺ إلى المدينة وإقامته بها إنما كان في أواخر سنة ثمان؛ لأنَّه جاء إلى النَّبيِّ صلعم مهاجرًا، فلقيه بطريق مكَّة متوجِّهًا إليها زمن الفتح، فرجع معه وشهد فتح مكَّة وحنينًا والطائف، ثم جاء بعد إلى المدينة وأقام بها، وحينئذٍ قال له النَّبيُّ صلعم : «أَلاَ تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ»، وإنما كان قبل ذلك مقيمًا بمكَّة، والظاهر أن هذا كان قريبًا من فراق بريرة إياه، واختيارها نفسها، فيلزم من هذا أن يكون عتقها تأخر عن شرائها، وهو بعيد جدًّا؛ إذ لا يُظَنُّ بعائشة ♦ / أنَّها تشتري جارية بشرط العتق، ثمَّ يتأخر عتقها عن الشراء مدَّة طويلة، بل ولا يقرُّها النَّبيُّ صلعم على ذلك، وقد يقال: إنَّ أصل المراوضة في بيعها كان بشرط العتق، ثمَّ ابتاعتها بدون ذلك، وتأخر عتقها إلى أن قَدِم العبَّاس ☺ ولكنَّه بعيدٌ أيضًا؛ إذ لم يفهم العلماء في كل عصر من قصَّة بريرة إلَّا أنَّها بيعت بشرط العتق، وأقرب من هذين أن يقال: إنَّ محبة زوجها إيَّاها امتدت زمنًا طويلًا إلى مجيء العبَّاس، وبقي فسألها الرجعة، وفي «صحيح البخاريِّ» في «كتاب العتق»، عن عائشة قالت: اشتريت بريرة فاشترط أهلها ولاءها، فذكرت ذلك للنَّبيِّ صلعم فقال: «أعتقيها؛ فإنَّ الولاء لمن أعطى الوَرِق» فأعتقتها، فدعاها النَّبيُّ صلعم ، فخيَّرها من زوجها، فقالت: لو أعطاني كذا وكذا ما بقيت عنده، فاختارت نفسها، ففي هذا أنَّ العتق كان عقيب الشراء، وكذلك التَّخيير، فلم يبق إلَّا أنَّ حبَّ زوجها استمرَّ زمنًا طويلًا، وبه يزول الإشكال، والله أعلم.


[1] في الأصل: ((قبل)).
[2] الواو زيادة لربط الكلام.