التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة

حديث: أما العباس فهي عليه صدقة

           ░16▒ ومنها: ما رواه البخاري في «الزكاة» من «صحيحه»، عن أبي اليمان، عن شعيبٍ، عن أبي الزناد، عن الأعرج، عن أبي هريرة ☺ ، قال: أمر رسول الله صلعم بصدقة، فمنع ابن جميل، وخالد بن الوليد، وعبَّاس بن عبد المطلب...؛ الحديث. وقال فيه: «وأمَّا العبَّاس فهي عليه صدقة، ومثلها معها...»، وذكر بقيَّته، ثم قال / بعد ذلك: تابعه ابن أبي الزناد، عن أبيه، وقال ابن إسحاق، عن أبي الزناد: «فهي عليه ومثلها معها»، انتهى كلامه.
          والحديث عند النَّسائيِّ من طريق عليِّ بن عياش(1) ، عن شعيب بن أبي حمزة، باللفظ الذي ذكره البخاريُّ: «فهي عليه صدقة ومثلها معها».
          لكنَّه جعل الحديث من مسند عمر ☺ ، من رواية أبي هريرة عنه.
          وطريق ابن إسحاق رواها الدارقطني من حديث يونس بن بكير(2) ، عن ابن(3) إسحاق، عن أبي الزناد، ولفظه: «فهي عليَّ ومثلها معها»، وهكذا رواية مسلم، وأبي(4) داود، من طريق ورقاء، عن أبي الزناد.
          والإشكال في رواية البخاريِّ، والنَّسائيِّ: «فهي عليه صدقة».
          قال البيهقيُّ ☼: يبعد من أن يكون الذي رواه شعيب بن أبي حمزة محفوظًا؛ لأنَّ العباس ☺ كان رجلًا من بني هاشم تحرم عليه الصدقة، فكيف يجعل النَّبيُّ صلعم ما عليه من صدقة عامين صدقةً عليه؟
          قلت: وبهذا يندفع ما ذكر عن بعضهم أنَّه قال: أعطاه النَّبيُّ صلعم ذلك؛ لأنَّه كان فادى نفسه وعقيلًا، فكأنَّه كان غارمًا، وأيضًا فإنَّ النَّبيَّ صلعم صرَّح بتحريم الصدقة على بني هاشم عمرهم(5) .
          ولا يستقيم هذا التخريج على مذهب أحدٍ من الأئمَّة، فطريقه(6) والوجه المرجح(7) في مذهبنا أنَّهم إن مُنعوا حقَّهم من خمس الخمس، جاز الدفع إليهم، لا يجيء هنا أيضًا؛ لأنهم كانوا في زمن النَّبيِّ صلعم غير ممنوعين قطعًا، وقد أوَّل أبو عبيد القاسم بن سلام وغيره هذه اللفظة، على أن العبَّاس ☺ / كان سأل من النَّبيِّ صلعم تأخير صدقة صدقته عامين فأرخص له النَّبيُّ صلعم في ذلك، ولم يكن عمر ☺ علم بذلك، فأخبره النَّبيُّ صلعم أنَّها(8) غير ساقطة من ذمته، بل هي عليه باقية ومثلها، وهي زكاة العام الماضي، فتكون: (صدقة)، عطف بيان للمبتدأ، وهو الضمير المنفصل، وخبره الجار والمجرور؛ أي: باقية مستقرَّة، وهذا تأويل صحيح، لكنَّه يحتاج إلى دليلٍ يقتضي ما ذكره من التأخير، وسؤاله ذلك، ثمَّ هو معارض رواية مسلم وغيرها التي قال فيها: «فهي عليَّ ومثلها معها».
          وتعتضد هذه الرِّواية بما رُوي من غير وجه، عن عليٍّ ☺ : أنَّ العبَّاس ☺ عجَّل صدقته إلى النَّبيِّ صلعم ، أخرجه أبو داود، والترمذيُّ، وابن ماجه، من حديث الحجاج بن دينار، عن الحكم، عن حُجَيَّة بن عديٍّ، عن عليٍّ ☺ .
          وفي كلام الترمذيِّ ما يقتضي تصحيحه، لكن رواه هُشيم وغيره مرسلًا(9) ، وصحَّح أبو حاتم وأبو زرعة وأبو داود وغيره قول مَن أرسله.
          ورواية هُشيم له، عن منصور، عن الحكم بن عُتيبة(10) ، عن الحسن بن مسلم(11) بن يناق، عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال لعمر ☺ في هذه القصة: «إنَّا تعجلنا صدقة مال العبَّاس لعامنا هذا، عام أوَّل».
          وروى جرير بن حازم، عن الأعمش، عن عمرو بن مرَّة، عن أبي البَختري، عن عليٍّ ☺ بالقصَّة، وفيها: أنَّ النَّبي صلعم قال: «يا عمر أما علمت / أنَّ عم الرجل صنو أبيه، إنا كنا احتجنا فاستسلفنا العبَّاس صدقة عامين»، أخرجه البيهقيُّ وإسناده صحيحٌ، لكن فيه إرسال من جهة أن أبا البَختري لم يسمع من عليٍّ ☺ .
          وروى أبو داود الطيالسيُّ، عن شريك، وعن إسماعيل بن مسلم العبديِّ البصريِّ، عن سليمان الأحول، عن أبي رافع ☺ : أنَّ النَّبيَّ صلعم بعث عمر ساعيًا... فذكره، وفيه: قوله صلعم : «إنَّ العبَّاس أسلفنا صدقة العام، عام الأوَّل»، فهذه عدة طرق مرسلة يعتضد بعضها ببعض، ويعتضد بها المسند المتقدِّم، وينتهي الحديث بها إلى درجة الصحة القوية.
          وبيَّن أنَّ الصَّحيح في حديث أبي هريرة رواية مسلم: «فهي عليَّ ومثلها معها»، وأنَّ رواية شعيب التي أخرجها البخاريُّ: «فهي عليه صدقة» لا يصح تأويلها المتقدِّم، فلا وجه لها، والله سبحانه أعلم.


[1] في الأصل: ((عباس)).
[2] في الأصل: ((بكر)).
[3] في الأصل: ((أبي)).
[4] في الأصل: ((وأبو)).
[5] رسمت في الأصل: عمروه.
[6] في الأصل: ((المرجوح)).
[7] ((أنها)): ليس في الأصل.
[8] في الأصل: ((وعن ابن سلام)).
[9] في الأصل: ((عتبة)).
[10] في الأصل: ((سلمة)).
[11] هكذا قرأتها.