التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة

حديث الإفك

           ░2▒ ومنها: ما رواه البخاريُّ في كتاب «المغازي»، فقال:
          حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، عَنْ حُصَيْنٍ، عَنْ أَبِي وَائِلٍ: حَدَّثَهم مَسْرُوقُ بْنُ الْأَجْدَعِ: حَدَّثَتْنِي أُمُّ رُومَانَ _وَهِيَ أُمُّ عَائِشَةَ ☻_ قَالَتْ: بَيْنَا أَنَا قَاعِدَةٌ أَنَا وَعَائِشَةُ إِذْ وَلَجَتْ امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَتْ: فَعَلَ الله بِفُلَانٍ وَفَعَلَ، فَقَالَتْ أُمُّ رُومَانَ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: ابْنِي فِيمَنْ حَدَّثَ الْحَدِيثَ، قَالَتْ(1) : وَمَا ذَاكَ؟ قَالَتْ: كَذَا وَكَذَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلعم ؟ قَالَتْ: نَعَمْ، قَالَتْ: وَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَتْ: نَعَمْ. فَخَرَّتْ مَغْشِيًّا عَلَيْهَا، فَمَا أَفَاقَتْ إِلَّا وَعَلَيْهَا حُمَّى بِنَافِضٍ، فَطَرَحْتُ عَلَيْهَا ثِيَابَهَا فَغَطَّيْتُهَا، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلعم فَقَالَ: «مَا شَأْنُ هَذِهِ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ أَخَذَتْهَا الْحُمَّى بِنَافِضٍ، قَالَ: «فَلَعَلَّ فِي حَدِيثٍ تُحُدِّثَ بِهِ؟» قَالَتْ: نَعَمْ. فَقَعَدَتْ عَائِشَةُ ♦ فَقَالَتْ: وَالله لَئِنْ حَلَفْتُ لَا يُصَدِّقُونِي، وَلَئِنْ قُلْتُ لَا تَعْذِرُونِي، مَثَلِي وَمَثَلُكُمْ كَيَعْقُوبَ وَبَنِيهِ، وَالله الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ، قَالَتْ: وَانْصَرَفَ وَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَأَنْزَلَ الله عُذْرَهَا، قَالَتْ: بِحَمْدِ الله ولَا بِحَمْدِكَ.
          ورواه / أيضًا في أحاديث الأنبياء، عن محمَّد بن سلَام: حدَّثنا ابن فضيل: حدَّثنا ابن حُصين(2) ، عن شقيق، عن مسروق، قال: سألت أم رومان؛ وهي أمُّ عائشة ☻ عمَّا قيل فيها قالت: بينا أنا مع عائشة جالسة... فذكرتْ نحو ما تقدَّم، فهذا السِّياق فيه مخالفةٌ كبيرةٌ لما رواه ابن شهابٍ، عن عروة بن الزُّبير، وسعيد بن المسيِّب، وعلقمة بن وقَّاص، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، كلُّهم عن عائشة ♦، القصَّة بطولها، وهي في «الصَّحيحين» وسائر الكتب، ولا يلتئم الجمع بينهما، وكذلك رواية أبي أسامة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قريبةً من رواية الزُّهريِّ، وقد أخرجاه أيضًا وتباين طريق مسروق هذه.
          وقال: كنت ربما أستغرب هذا السياق ولا أعرف له علَّة، إلى أن ظفرت للحافظ أبي بكر الخطيب بكلام عليه، يُبيِّن أنَّه مرسلٌ؛ لأنَّ أمَّ رومان ♦ توفيِّت في ذي الحجَّة سنة ستٍّ من الهجرة، بعد قضيَّة الإفك بأشهرٍ قليلةٍ، قال ذلك الزُّبير بن بكار، والواقديُّ، وأبو حسَّان الرماديُّ، وإبراهيم الحربيُّ.
          وقد روى عبد الرَّحمن بن مهديٍّ، عن حمَّاد بن سلمة، عن عليِّ بن زيدٍ، عن القاسم بن محمَّد، عن أمِّ سلمة ♦ قالت: لمَّا دفنت أمُّ رومان، قال النَّبيُّ صلعم : «مَن سرَّه أن ينظر إلى امرأةٍ من الحور العين، فلينظر إلى هذه»، ورواه ابن أبي عديٍّ، عن حمَّاد بن سلمة، فجعله من مسند عائشة ♦.
          ومنهم من أرَّخ وفاتها في سنة خمسٍ، والأوَّل أصحُّ.
          وإذا / ثبت أنَّها توفيِّت في حياة النَّبيِّ صلعم فلا يصحَّ أن يسمع منها مسروق؛ لأنَّه لو سمع منها بالمدينة؛ كان يكون صحابيًّا، ولا خلاف في أنَّه لم يقدم المدينة إلَّا بعد وفاة النَّبيِّ صلعم ، وصلَّى خلف أبي بكرٍ ☺ ، وسمع ممَّن بعده، فيتعيَّن أن تكون روايته هذه مرسلة، وقد رواها أحمد بن حنبل في «المسند» من طريق عليِّ بن عاصمٍ وابن جعفر الرازيِّ، كلاهما عن حُصين، عن أبي وائل، عن مسروق، عن أمِّ رومان بلفظ: (عن).
          قال الخطيب: وهذا هو الصَّحيح وتصريح حصين فيه بالحديث والسؤال فيما رواه البخاريُّ لعلَّه كان في حال اختلاطه؛ لأنَّه اختلط في آخر عمره.
          قال: وقد رواه أبو سعيدٍ الأشج، عن محمَّد بن فُضيل، بسند البخاريِّ فقال فيه: عن مسروق قال: سئلتُ أمَّ رومان فذكر القصَّة، قال الخطيب: فتكون كُتبت (سألت) بالألف على اصطلاح مَن يجعل الهمزة في الخط ألفًا، وإن كانت مكسورة، أو مضمومة.
          قلت: ولا يتأتَّى هذا التَّأويل في قول مسروق: (حدَّثتني أمُّ رومان)؛ كما رواه البخاريُّ من طريق أبي عوانة، فالأولى ردُّ الوهم فيه إلى حُصين بعد اختلاطه.
          والحاصل: أنَّ هذا الحديث منقطعٌ بين(3) مسروق وأمِّ رومان، وقد ذكر شيخنا المزيُّ في «الأطراف» أنَّ بعض الرُّواة رواه عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، عن أمِّ رومان، قال: وهو أشبه بالصَّواب.
          وأمَّا ما ذكر إبراهيم الحربيُّ أنَّ مسروقًا كان يسأل أمَّ رومان وله خمس عشرة سنة؛ فهو وهمٌ منه، / قال محمَّد بن سعد وجماعة: توفِّي مسروق سنة ثلاث وستين، وقال أبو نعيم: سنة اثنتين وستِّين.
          وذكر الفضل بن عمرو أنَّ مسروقًا حين مات كان له ثلاثٌ وستُّون سنة، فيكون عمره عند موت أمِّ رومان ♦ نحو سبع سنين، وإبراهيم الحربيُّ ممَّن أرَّخ وفاة أمِّ رومان سنة ستٍّ في حياة النَّبيِّ صلعم ، فخفي عليه ذلك؛ كما خفيت هذه العلة على الإمام البخاريِّ ☼، وحصل بسبب هذا الإرسال المخالفة في متن الحديث كما تقدَّم.


[1] في الأصل: ((قال)).
[2] في الأصل: (بن حصين).
[3] في الأصل: ((من)).