التنبيهات المجملة على المواضع المشكلة

وهم آخر في بعض حديث الإفك

           ░3▒ ومن ذلك أيضًا: قوله: (امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ)، وإنَّما كانت هذه أمُّ مسطح، وليست من الأنصار، وكان إخبارها بذلك عائشةَ ♦ حين خرجوا إلى المناصع، ثمَّ كانت القصة من حين بلغ عائشة ♦ الخبر إلى أن نزلت براءتها في أيَّامٍ متعددة، كما دلت عليه تلك الرِّوايات المتَّصلة، ومقتضى حديث أمِّ رومان أنَّ ذلك كلَّه كان في بعض يوم، إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف.
          والاعتراض بحديث مسروق هذا على الإمام البخاريِّ أقوى ممَّا اعترض به عليه ابن حزم في إخراجه حديث شَريك بن عبد الله بن أبي نَمِر، عن أنسٍ في قصَّة المعراج، أنه جاءه ثلاثة نفرٍ قبل أن يُوحى إليه، وذكر القصَّة.
          قال ابن حزم: لا خلاف في أنَّ الإسراء كان بعد النُّبوَّة بمدَّة.
          وأوَّل بعضهم قوله: (قبل أن يُوحى إليه)؛ أي: في شأن الصلوات أو الإسراء ونحو ذلك، والتزم الشيخ شهاب الدين أبو شامة وغيره، بسبب هذه الرِّواية(1) / أنَّ الإسراء كان مرَّتين، مرة قبل النبوة بروحه، ومرَّة بعدها بالجسد، وهذا ضعيفٌ جدًّا؛ إذ كيف يجوز أن يحفظ النَّبيُّ صلعم هذه القصة بطولها، ويعرف جبريل، وفرض الصَّلوات عليه، وعلى أمَّته، ثم لمَّا جاءه صلعم جبريل بالوحي أوَّل النبوَّة يقول لخديجة ♦: «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي»، إلى غير ذلك مما روي عنه صلعم أوَّل النبوَّة، من سؤال ورقة، وأخبار(2) خديجة ♦ أمر جبريل بكشف قناعها.
          فهذا التجويز الذي قاله أبو شامة يُطرِّق للملحدين الطعن في النبوَّة، ولكنَّ لحديث شَريك بن أبي نَمِر مخرج حسن ظاهر، لم أر أحدًا تنبَّه له، وهو في نفس الحديث عند البخاريِّ من طريقه، قال: سمعت أنس بن مالك ☺ يقول عن ليلة أسري برسول الله صلعم : أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يُوحى إليه، وهو نائم في المسجد الحرام، فقال أوَّلهم: أيُّهم هو ؟ فقال: أوسطهم، هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة، فلم يروه حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه، و[كانت](3) تنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يُكَلِّموه حتى احتملوه، فوضعوه عند بئر زمزم، فذكر القصَّة بطولها في شقِّ / قلبه، ثمَّ الإسراء به صلعم .
          فيكون الذي وقع قبل النبوَّة تلك الليلة الأولى فقط، ثم إنَّما جاؤوه في اللَّيلة الأخرى بعد النبوَّة، وليس فيها ما يُشعر بأنَّها كانت قبل أن يوحى إليه، فاندفع حينئذٍ ما اعترض به ابن حزم، وما ترتب على ذلك الالتزام الذي التزمه أبو شامة وغيره.
          نعم؛ وقع في حديث شَريك هذا في كتاب كبقية الرِّوايات عن أنس في عدة مواضع، ومنها جعله ذلك في المقام، ولهذا اعترض مسلم عن سياقة حديثه، بل ذكَّر بسنده بعد سياقه الحديث من طريق ثابت عن أنس، وقال في سند شريك: فقدَّم وأخر، وزاد ونقص. والمقصود إنما هو دفع ما اعترض به على قوله: (وذلك قبل أن يوحي الله)، والله أعلم.


[1] وقع هنا تكرار من الناسخ لا مبرر له.
[2] في الأصل: «وأصحاب»، ولعلَّ المثبت أولى. اهـ.
[3] (كانت) زيادة توضيحية ليست في الأصل.