تحفة الأخباري بترجمة البخاري

محنته ووفاته ☼

          وكان ☼للسُّنَّة معظمًا، وللعلم محترمًا، وقال أبو سعيد بكر بن منير بن خُليد بن عسكر: بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى محمَّد بن إسماعيل أن احمل إليَّ كتاب ((الجامع)) و((التاريخ)) وغيرهما لأسمع منك، فقال محمَّد بن إسماعيل لرسوله: أنا لا أذلُّ العلم وأحمله إلى أبواب الناس، فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة فاحضرني في مسجدي، أو في داري، فإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من المجلس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة لأني لا أكتم العلم لقول النبي صلعم: «من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار ». قال: فكان سبب الوحشة بينهما هذا.
          خرَّجه الخطيب في ((التاريخ)) وقال: أخبرنا محمَّد بن علي بن أحمد المقري: أخبرنا محمَّد بن عبد الله الحافظ: سمعت / محمد بن العباس الضبي يقول: سمعتُ أبا بكر بن أبي عمرو الحافظ يقول: كان سبب مفارقة أبي عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري البلد _يعني بخارى _ أن خالد بن أحمد الذهلي الأمير خليفة الظاهرية ببخارى سأله أن يحضر مجلسه فيقرأ الجامع والتاريخ على أولاده، فامتنع أبو عبد الله عن الحضور عنده، فراسله أن يعقد مجلسًا لأولاده لا يحضره غيرهم، فامتنع عن ذلك أيضًا، وقال: لا يسعني أن أخصَّ بالسماع قومًا دون قوم، فاستعان خالد بن أحمد بحريث ابن أبي الورقاء وغيره من أهل العلم ببخارى عليه حتى يكلموه في مذهبه ونفاه عن البلد، فدعا عليهم أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل فقال: اللهم أرهم ما قصدوني به في أنفسهم وأولادهم وأهليهم، فأمَّا خالد فلم يأت عليه إلَّا أقل من شهر حتى ورد أمر الظاهرية بأن ينادى عليه فنودي عليه وهو على أتان وأشخص على أكاف، ثمَّ صار عاقبة أمره إلى ما قد أشهر وشاع، وأما حريث ابن أبي الورقاء فإنه ابتلي بأهله فرأى فيها ما يجل عن الوصف، وأما / فلان أحد القوم وسماه فإنَّه ابتلي بأولاده وأراه الله فيهم البلايا.
          (قلت: ولعلَّ هذه الدعوة إحدى الدعوتين المشار إليها فيما قال أبو جعفر وراق البخاري قال: وسمعته_يعني البخاري_يقول: ما ينبغي للمسلم أن يكون على حالة إذا دعا لم يستجب له.
          قال أبو جعفر: فقالت له امرأة أخيه بحضرتي: فهل تبينت ذلك أيها الشيخ من نفسك أو جرَّبت ؟ فقال: نعم، دعوت ربي ╡ مرتين فاستجاب لي، فلن أحب أن ادعوا بعد ذلك فلعله ينقص من حسناتي أو يعجل لي في الدنيا، ثمَّ قال: ما حاجة المسلم إلى الكذب والبخل، أو قال: والتخليط ؟ قال: وسمعته يقول: لم يكن يتعرض لنا قطُّ أحدٌ من أفناء الناس إلَّا رُمي بقارعة ولم يسلم).
          وقال أبو جعفر محمَّد بن أبي حاتم أيضًا: سمعت يحيى بن جعفر يقول: لو قدرت أن أزيد في عمر محمَّد بن إسماعيل لفعلت، فإنَّ موتي يكون موت رجل واحد، وموت محمَّد بن إسماعيل ذهاب العلم.
          وبلغنا أن أهل سمرقند / كتبوا إلى أبي عبد الله البخاري ليسير إليهم ويقرؤوا عليه، فسار متوجهًا إليهم إلى أن وصل إلى خَرْتَنْكَ نزل على غالب بن جبريل، فأقام عنده مدة، فمرض مدة واشتد مرضه.
          قال أبو أحمد بن عدي: وسمعت عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي يقول: جاء محمَّد بن إسماعيل إلى خَرْتَنْك قرية من قرى سمرقند على فرسخين منها وكان له بها أقرباء فنزل عندهم، فسمعته ليلة من الليالي وقد فرغ من صلاة الليل يدعو ويقول في دعائه: اللهم إنه قد ضاقت عليَّ الأرض بما رحبت فاقبضني إليك. قال: فما تمَّ الشهر حتى قبضه الله ╡، وقبره بخرتنك رحمة الله عليه.
          هذا هو المعروف أن قبره بخرتنك، وهو الصحيح، والله أعلم.
          وذكر ابن يونس في ((تاريخ الغُرباء)) أنَّ البخاري مات بمصر بعد الخمسين ومئتين.
          قال أبو الفضل ابن العراقي: لم أره لغيره، والظاهر أنه وهم، انتهى.
          و(خَرْتَنْك) بفتح الخاء المعجمة بعدها راء ساكنة ثمَّ مثناة من فوق مفتوحة بعدها / نون ساكنة وآخرها كاف، وقيَّدها بعضهم بكسر الخاء، والمعروف الفتح، والله أعلم.
          قال الحافظ أبو بكر الخطيب في ((تاريخه)): أخبرنا عبد الله ابن أبي حامد الأصبهاني في كتابه: حدَّثنا محمَّد بن محمَّد بن مكي الجرجاني: سمعت عبد الواحد بن آدم الطواويسي قال: رأيت النبي صلعم في النوم ومعه جماعة من أصحابه وهو واقف في موضع ذكره، فسلَّمت عليه فردَّ السلام، فقلت: ما وقوفك يا رسول الله ؟ فقال: أنتظر محمَّد بن إسماعيل البخاري، قال: فلما كان بعد أيام بلغنا موته، فنظرنا فإذا هو قد مات في الساعة التي رأيت النبي صلعم فيها.
          كانت وفاته ☼فيما قاله أبو أحمد ابن عدي، وسمعت الحسن بن الحسين البزاز البخاري يقول: توفي محمَّد بن إسماعيل البخاري ليلة السبت عند صلاة العشاء ليلة الفطر، ودفن يوم الفطر بعد صلاة الظهر يوم السبت مستهل / شوال من شهور من سنة ستٍ وخمسين ومئتين، عاش اثنين وستين سنة إلَّا ثلاثة عشر يومًا ☼.
          وقال أبو جعفر محمَّد بن أبي حاتم: وسمعت أبا منصور غالب بن جبريل وهو الذي نزل عليه أبو عبد الله_يعني البخاري_ يقول: إنه أقام عندنا أيامًا فمرض واشتدَّ به المرض، حتى وُجِّهَ رسولٌ إلى مدينة سمرقند في إخراج محمَّد، فلما وافاه تهيأ للركوب، فلبس خفَّيه وتعمَّم، فلما مشى قدر عشرين خطوة أو نحوها وأنا آخذ بعضده ورجل آخر يقوده إلى الدابة ليركبها، فقال ☼: أرسلوني فقد ضعفت، فدعا بدعوات ثمَّ اضطجع، فقضى ☼، فسال منه العرق شيء لا يوصف، فما سكن منه العرق إلى أن أدرجناه في ثيابه، وكان فيما قال لنا وأوصى إلينا: أن كفِّنوني في ثلاثة أثواب بيض ليس فيها عمامة ولا قميص. ففعلنا ذلك، فلما دفناه علت سوار بيض في السماء مستطيلة بحذائه(1) / فجعل الناس يختلفون إليه ويتعجبون [من أمره]
          وأما التراب فإنهم كانوا يرفعون عن القبر حتى ظهر اللبن، ولم يكن يُقدر على حفظ القبر بالحراس، وغلبنا على أنفسنا فنصبنا على القبر خشبًا مشبكًا لم يكن يقدر أحد على الوصول إليه، فكانوا يرفعون ما حول القبر من التراب ولم يكونوا يخلصون إلى القبر.
          وأما الريح الطيب فإنه قد دام أيامًا كثيرة حتى تحدث أهل البلدة وتعجبوا من ذلك، وظهر عند مخالفيه بعد وفاته، وخرج بعض مخالفيه إلى قبره وأظهروا التوبة والندامة ممَّا كانوا شرعوا فيه من مذموم المذهب.(2)
          (قال أبو جعفر: ولم يعش أبو منصور غالب بن جبريل بعده إلَّا القليل حتى مات، وأوصى أن يدفن إلى جنبه ►).
          قال أبو أحمد ابن عدي: وسمعت الحسن بن الحسين البزار يقول: رأيت محمَّد بن إسماعيل ☼شيخًا نحيف الجسم، ليس بالطويل ولا بالقصير. /
          وخرَّجه الخطيب في التاريخ من طريق ابن عدي، وفي شمائل البخاري غير ما ذكرناه، اكتفينا منه بما قدمناه، ولقد كان كبير الشأن، جليل القدر، عديم النظير، لم يُر أحد شكله، ولم يخلف بعده مثله، فرحمه الله وأرضاه، وجعل جنة الفردوس مأواه، وأعاد علينا من بركته، وجمع بيننا وبينه في الجنة برحمته، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، وحسبنا الله ونعم الوكيل وصلى الله على سيدنا محمَّد وآله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين. /


[1] أي: بحذاء قبره.
[2] العبارة في (ب) مختصرة.