التلويح شرح الجامع الصحيح

باب الاعتكاف

          ░░33▒▒ بَابُ الِاعْتِكَافِ فِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ، وَالِاعْتِكَافِ فِي المَسَاجِدِ كلها لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِّ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}[البقرة:187].
          قال الأزهري: قال المفسرون وغيرهم من أهل اللغة: {عَاكِفُونَ}: مقيمون في المساجد، يقال: عكَف يعكُف ويعكِف؛ إذا أَقَامَ، ومنه قوله: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ}[الأعراف:138]؛ أي: يقيمون، قال الفراء، يقال عَكفتُه أعكُفُه عكفًا، إذا حبسته، وَقد عكَّفْت القوم عن كذا؛ أي: حبستُهم، ويقال: إنك لتعكفني عن حاجتي؛ أي: تصرفني عنها.
          قال الأزهري: يقال: عكفتُه عكفًا، فعكف يعكف عكوفًا، وهو لازم وواقع، كما يُقال: رجعته فرجع، إلا أن مصدر اللازم العكوف، ومصدر الواقع العَكْف.
          وعن الليث: عَكْفًا وعكوفًا، وهو إقبالك على الشيء لا ترفع عنه وجهَك.
          والاعتكاف في المسجد: الإقامة فيه، وأن لا يبرح منه إلا لحاجة الإنسان، وقوم عُكوف: مقيمون.
          في «الموعب»: أصوب ما يكون العُكَّف إذا كان من جماعة، والعاكف: المعتكف، وقلَّ ما يقولون: عكف، ولو قيل لكان صوابًا.
          وفي «أمالي» أبي الحسن الأخفش: يعكفن: يقمن معي، ويقال: يطفن بي.
          وفي «المحكم»: قوم عُكَّف وعُكُوف.
          وعن الشافعي: والاعتكاف لزوم المرء الشيءَ وحبسُ نفسِه عليه، بِرًّا كان أو إثمًا، دليله قوله تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ}[الأعراف:138].
          قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضًا إلا أن يوجبه المرء على نفسه نذرًا، فيجب عليه.
          قال ابن قدامة: إن نوى اعتكافَ مدة لم يلزمه، فإن شرع فيها فله إتمامها وله الخروج منها متى شاء، وبهذا قال الشافعي، وقال / مالك: يلزمه بالنية مع الدخول فيه، فإن قطعه لزمه قضاؤه.
          قال ابن عبد البر: لا يختلف في ذلك الفقهاء، ويلزمه القضاء عند جميع العلماء.
          قال: وإن لم يدخل فيه فالقضاء يستحب، ومن العلماء من أوجبه إن لم يدخل فيه، واحتج بحديث عائشة: «كان يعتكف العشر الأواخر» الحديث، وفيه: «فإني معتكفه، فلما أفطر اعتكف عشرين شوال» [خ¦2033].
          قال ابن قدامة: لم يصنع أبو عمر شيئًا، وليس هذا بإجماع، ولا يعرف هذا القول عن أحد سواه، وقد قال الشافعي: كل عمل لك أن لا تدخل فيه، فإذا دخلت فيه فخرجت منه فليس عليك أن تقضي إلا الحج والعمرة.
          وفي «شرح الهداية»: الاعتكاف سنة مؤكدة.
          وفي «المبسوط»: قربة مشروعة.
          وقال ابن العربي في «العارضة»: هو سنة، وقول أصحابنا: جائزٌ جهل منهم.
          ونص الشافعيون والحنابلة على كونه سنة، ولم يقل أحد بوجوبه، وثبت أن رسول الله صلعم اعتكف العشر الأول، والأوسط، والآخر، والعشرين من شوال، يلتمس في ذلك كله ليلة القدر إلى أن استقر الأمر عنده أنها في العشر الأواخر.
          وعن أنس: «أن رسول الله صلعم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فلم يعتكف عامًا، فلما كان العام المقبل اعتكف عشرين».
          قال الترمذي: لما قطع اعتكافه من أجل أزواجه قضاه على مذهب من يرى قضاء التطوع إذا قطعه.
          قال ابن العربي: ليس في الحديث أنه شرع فيها، وإنما صلَّى الفجر فلما أراد أن يدخل المعتَكَفَ جرى ما جرىن ولم يدخل المعتَكَفَ ولا شرع فيه، فلم يلزمه قضاؤه على قول أحد.
          والاعتكاف: هو اللبث في المسجد مع الصوم ونية الاعتكاف، أما اللبث في المسجد فركنه، وخصُّ بالمسجد بالإجماع، ولم يخالف فيه أحد إلا ابن لبانة المالكي فجوزه في غير المسجد من غير صوم للرجال والنساء، وهو شاذ، والصوم من شرطه / . وقيل: إنه مذهب علي، وعائشة، وابن عمر، والشعبي، وعروة، ومجاهد، والقاسم بن محمد، وابن المسيب، ونافع، والزهري، والأوزاعي، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه، ومالك، والثوري، والليث، والحسن بن حي، والشافعي في القديم، وقول لأحمد ابن حنبل.
          وروي عن علي أيضًا، وابن مسعود، وطاوس، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البصري، والشافعي، وأبي ثور، وأحمد، وإسحاق: الصوم ليس بشرط في الواجب والنفل.
          ورواية عطاء ومقسم وأبي فاخِتة عن ابن عباس شرط الصوم.
          استدلوا بما رواه الدارقطني عن ابن عباس: «ليس على المعتكف صوم إلا أن يجعله على نفسه».
          قال أبو الحسن: رفعه أبو بكر محمد بن إسحاق السُّوسي، وغيره لا يرفعه.
          وبما رواه ابن عمر عند الأئمة الستة [خ¦2042]: «أن عمر سأل رسول الله صلعم فقال: كنتُ نذرتُ أن أعتكف ليلة في الجاهلية في المسجد الحرام، فقال: أوف بنذرك»، قالوا: والليلة لا تقبل الصوم بالإجماع، والصوم عبادة أصلٌ بنفسه فلا يكون شرطًا لغيره كالصلاة والزكاة والحج.
          قالوا: وصوم رمضان لا يجوز لأحد أن ينوي به رمضان وغيره معًا لا واجبًا ولا غير واجب، ومعلوم أن اعتكاف سيدنا رسول الله صلعم كان في رمضان.
          وقال ابن شهاب: اجتمعت أنا وأبو سهيل بن مالك عند عمر بن عبد العزيز، فقلت: «لا يكون اعتكاف بغير صوم، فقال عمر: أَمرُ النبي صلعم؟ فقلت: لا، قال: أَمرُ أبي بكر؟ قلت: لا، قال: أمرُ عمر؟ قلت: لا، قال: عثمان؟ قلت: لا، قال: فلا إذًا».
          وبما روي أن النبيَّ صلعم اعتكف في العشر الأول من شوال.
          وأما الذين اشترطوا الصوم فذهبوا إلى ما قالت عائشة أن رسول الله صلعم قال: «لا / اعتكاف إلا بصوم»، رواه البيهقي من جهة مؤمِّل بن عبد العزيز الدمشقي، عن سفيان بن حسين، عن الزهري، عن عروة عنها، وقال: هذا وَهَمٌ من سفيان أو من سويد.
          ورواه الدارقطني من حديث سويد بن عبد العزيز عن سفيان، وهو عند أبي داود عنها: «السُّنَّةُ في المعتكف أن لا يعود مريضًا»، وفيه: «ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع».
          وقال: غير عبد الرحمن بن إسحاق لا يقول فيه قائل: «قالت: السُّنَّةُ».
          وابن إسحاق هذا: هو القرشي المدني، عرف بعَبَّاد، وثقه ابن معين وغيرُه، وروى حديثَه مسلم في «صحيحه»، ولما ذكر الدارقطني حديث القاسم بن معن، عن ابن جريج، عن ابن شهاب عن سعيد وعروة عن عائشة قالت، فقال: إن قوله: «وأن السنة للمعتكف» إلخ ليس من قول النبي صلعم، إنما هو من قول ابن شهاب، ومن أدرجه في الحديث فقد وهم.
          وقال البيهقي: منهم من زعم أنه من قول عائشة، ومنهم من زعم أنه من قول ابن شهاب، ويشبه أن يكون من قول مَنْ دُونَ عائشة، فقد روى الثوري عن هشام بن عروة قال: «المعتكف لا يشهد جنازة، ولا يعود مريضًا، ولا اعتكاف إلا بصيام».
          ورواه ابن أبي عَروبة عن هشام عن أبيه عن عائشة أنها قالت: «لا اعتكاف إلا بصوم» فالله أعلم.
          وروينا عن عطاء عن ابن عباس وابن عمر أنهما قالا: «المعتكف يصوم».
          وعند أبي داود أيضًا: «أن عمر لما سأل عن اعتكافه كان في الجاهلية قال له النبي صلعم يوم الجِعْرانة يعني سنة ثمان: اعتكِفْ وصُمْ».
          في إسناده عبد الله بن بُدَيل عن عمرو بن دينار، وقال الدارقطني: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: هذا الحديث منكر؛ لأن الثقات من أصحاب عمرو لم يذكروه؛ يعني الصوم، منهم ابن جريج، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وابن زيد.
          وقال البيهقي: هذا منكر، قد أنكره حفاظ الحديث لمخالفته أهل الثقة والحفظ في رواية، وخرجه / الشيخان من غير قوله: «وصم».
          قال القرطبي: تفرَّدَ به ابن بُدَيلٍ عن عمرو، وخرَّجه الحاكم في «المستدرك» وقال: لفقهاء أهل الكوفة في ضدِّ حديث ابن عباس يرفعه: «ليس على المعتكف صيام»، القائل فيه: صحيح على شرط مسلم، حديثان: الأول: فذكر حديث عائشة ثم حديث عمر هذا، وقال: لم يحتجَّ الشيخان بسفيان ولا بابن بُدَيل.
          ولما ذكر أبو أحمد حديث ابن بديل قال: لا أعلم ذكرَ الصوم في الاعتكاف في هذا الحديث إلا هو، ولا له غيرُ ما ذكرتُ مما ينكر عليه الزيادة في إسناده أو متنه ولم أر للمتقدمين فيه كلامًا فأذكره. انتهى.
          قال يحيى بن معين: هو صالح، وذكره ابن شاهين وابن حبان وابن خُلْفون في كتاب «الثقات»، صحَّحَ حديثه هذا ابن العربي، وقد وجدنا لابن بديل متابعًا بخلاف ما قاله أبو أحمد، وهو ما رواه الدارقطني بسند حسن من حديث سعيد بن بشير.
          قال الإشبيلي: وتفرَّد به عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر: «أن عمر نذر أن يعتكف في الشرك ويصوم، فسأل النبي صلعم فقال: أوفِ بنذرك».
          وقال الشافعي: رأيتُ عامةً من الفقهاء يقولون: لا اعتكاف إلا بصوم، ذكره البيهقي.
          وذكر مالك أنه بلغه عن القاسم بن محمد ونافع مولى ابن عمر أنهما قالا: «لا اعتكاف إلا بصوم لقول الله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ [ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ] وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة:187] وإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام».
          وقال ابن القصار: إن الله تعالى لما ذكر الوطء في أول الآية الكريمة، وعلَّقَ ذكرَه في الصوم بالنهار، عطف عليه حكم الاعتكاف، وذكر خطر الوطء معه لأنه قد يصح في وقت لا يصح فيه الصوم، وهو زمن الليل، ولو وطئ ليلًا يفسد اعتكافه، فهذا فائدة ذكره الوطء / بعد تقدُّمِ ذكره.
          وقال عياض: لم يأت عن النبي صلعم أنَّه اعتكف بغير صوم، ولو كان جائزًا لفعله تعليمًا للجواز، وهو عمل أهل المدينة.
          قالوا: ويجاب عن حديث ابن عباس بأمور، منها:
          أن السُّوسي تفرَّد به ولم يحتجَّ به أهل الصحيح، فلا يعارض حديثَ عبد الرحمن بن إسحاق المحتج به في الصحيح.
          الثاني: أسلفنا عن ابن عباس اشتراط الصوم، والراوي إذا عمل بخلاف روايته قدح ذلك في روايته على قاعدة الحنفية.
          الثالث: القول بموجب الحديث، وهو أن الهاء عائدة على الاعتكاف دون الصوم؛ لأنه أكثر فائدة، ولأن وجوب المنذور بالنذر معلوم، والخفاء في وجوب غير المنذور بالنذر، فكان حمله على الأكثر فائدة، أو يحتمله فيحمل عليه توفيقًا بين الحديثين.
          الرابع: نقول: إنه محمول على الحصر والندب، وحديث عمر محمول على أنه كان نذر يومًا وليلة، وهو في مسلم.
          قال ابن بطال: كان الصوم كان في أول الإسلام بالليل، ولعل ذلك كان قبل نسخه. انتهى.
          وفيه نظر، لأنَّا قد أسلفنا أن صوم الليل كان أولَ الإسلام، وحديثُ عمر في السنة الثانية.
          وأنكر النووي على صاحب «المهذب» استدلاله بحديث عمر، وقال: هو نذر في الجاهلية، وقد تقرر أن النذر في الجاهلية لا ينعقد على الصحيح، فلم يكن ذلك شيئًا واجبًا عليه.
          قال ابن بطال: وهذا محمول على الحض والندب لأنَّ الإسلام يجبُّ ما قبله.
          قال المهلب: كلُّ ما كان في الجاهلية من يمين وطلاق وشبههما فإنَّ الإسلام يهدمه، ويكون الأمر بذلك أمرَ استحباب كي لا يكون خُلْفًا في الوعد.
          وذهب البخاري إلى وجوب الوفاء به، ولهذا بوب في كتاب النذر: «بَابُ إِذَا نَذَرَ وَحَلَفَ أَلا يُكَلِّمَ إِنْسَانًا فِي الجَاهِلِيَّةِ وَأَسْلَمَ» فقاس اليمين على النذر، وهو قول / الشافعي وأبي ثور والطبري.
          وزعم ابن الجوزي أن معنى قوله: (فِي الجَاهِلِيَّةِ) أي: ونحن بمكة قبل فتحها وأهلها جاهلية، فعلى هذا لا يكون ناذرًا في الكفر، وبنحوه قاله الأصيلي، قال: يعني في زمن الجاهلية بعد أنه أسلم عمر بن الخطاب. انتهى كلامهما.
          وفيه نظر، لما ذكره ابنُ أبي عاصم في كتاب «الصيام»: حَدَّثنا أبو بكر بن أبي شيبة: حدَّثنا حفص بن غياث، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، عن عمر، قال: «نذرتُ أن أعتكف في الجاهلية، فلمَّا أسلمت سألتُ النبيَّ صلعم فقال: أوفِ بنذرك».
          قال القرطبي: والصحيحُ اشتراط الصوم؛ لأنَّ حديث عائشة _إن صحَّ_ فهو نص، وإن لم يصحَّ فالأصل في العبادات والقرب أنها تفعل على نحو ما قرَّرها الشارع أو فعلها، وقد تقرر مشروعية الاعتكاف مع الصوم في قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة:187]. وأن النبي صلعم لم يعتكف إلا صائمًا، فمن ادَّعى جوازَه بغير صومٍ دُفِعَ إلى إقامة دليل على ذلك. انتهى.
          قد أسلفنا أنَّه صلعم اعتكفَ العشرَ الأوَّل من شوال، كذا عند البيهقي، وفيه ما لا يصلح فيه صوم، ولما ذكره الإسماعيلي في «صحيحه» قال: فيه دليل على جواز الاعتكاف بغير صوم.
          لكن يخدش في هذا ما في البخاري: «اعتكف في آخر العشر من شوال».
          وعند الإسماعيلي أيضًا: «حتى إذا أفطر اعتكف في شوال».
          وعند أبي نعيم: «فلم يعتكف في رمضان إلا في العشرِ الأواخرِ من شوال».
          وعند الطحاوي: ترك الاعتكاف حتى أفطر من رمضان، ثم إنه اعتكف في عشر من شوال.
          وعن أبي حنيفة: لا يصح إلا في مسجد يصلى فيه الصلوات الخمس، وإليه ذهب الشافعي ومالك وأحمد وداود والجمهور.
          قال أبو حنيفة: يصح اعتكاف المرأة في مسجد بيتها بخلاف الرجل، وهو قول قديم / للشافعي، وجوَّزه بعض المالكية والشافعية للمرأة والرجل في مسجد بيتها.
          ثم اختلف المشترطون للمسجد العام:
          فقال الشافعي ومالك: يصح في كل مسجد.
          وقال أحمد: يختص بمسجد يقام فيه الجماعة الراتبة.
          وقال أبو حنيفة: يختص بمسجد تُصلَّى فيه الصلوات كلها.
          وقال الزهري وآخرون: يختص بالجامع الذي يقام فيه الجمعة.
          ونقلوا عن حذيفة بن اليمان ☺ اختصاصه بالمساجد الثلاثة: المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس. انتهى.
          في كتاب «الصوم» لابن أبي عاصم: حَدَّثنا أبو موسى: حدَّثنا أبو داود: حدَّثنا عمران، عن قتادة، عن ابن المسيب، عن حذيفة قال: «لا اعتكافَ إلا في مسجد النبي صلعم».
          قال: وعن ابن المسيب: «لا اعتكاف إلا في مسجد نبي».
          وعن الحارث عن علي: «لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام ومسجد المدينة».
          وعن أبي يوسف: الاعتكاف الواجب لا يجوز أداؤه في غير مسجد الجماعة، والنفل يجوز أداؤه في غيرِ مسجد الجماعة.
          والمرأة تعتكف في مسجد بيتها عند أبي حنيفة، وبه قال النخعي والثوري وابن عُليَّة.
          ويصح في سطح المسجد ورحبته، وله قراءة القرآن والحديث والعلم، وأمور الدين وسماع العلم خلافًا لمالك، ذكر ابن العربي عن ابن القاسم أنه لا يجوز للمعتكف عيادة المريض ولا مدارسة العلم، ولا الصلاة على الجنائز خلافًا لابن وهب.
          ولا بأس بأن يبيعَ ويبتاعَ في المسجدِ من غير حضور السلع، ويتزوج ويراجع ويتطيَّب ويتردد في نواحي المسجد، وتكره الخياطة والخرز.
          وقال الشافعي في «الأم»: لا بأس بأن يقصَّ في المسجد؛ لأنَّ القَصَصَ وعظ وتذكير.
          وفي «شرح الهداية»: يكره التعليم في المسجد بأجر، وكذا كتابة المصحف بأجر.
          وقيل: إن كان الخياط يحفظ المسجد فلا بأس بأن يخيط فيه.
          ويكره على سطحه ما يكره فيه / بخلاف بيت في المسجد.
          وأقل الاعتكاف عن مالك في رواية ابن القاسم عشرةُ أيام، وروي عنه: أقلُّه يوم وليلة، وإن نذَرَ دونَ عشرة أيام لزمه.
          قال النووي: ويصحُّ اعتكاف ساعة واحدة، وضابطه عند أصحابنا مُكْثٌ يزيد على طمأنينة الركوع أدنى زيادة، هذا هو الصحيح، وفيه خلاف شاذٌّ في المذهب، ولنا وجه أنه يصح اعتكاف المار في المسجد من غير لبث، والمشهور الأول.
          وفي كتاب «الصيام» لابن أبي عاصم: «يُروَى عن يعلى بنِ أميَّة أنه اعتكف ساعةً من نهار».
          وحديث: عَائِشَةَ: «كَانَ صلعم يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ» [خ¦2033].
          خرجه الستة [خ¦2026].
          وقوله: (آلْبِرَّ تُرَوْنَ) قال القرطبي: هو بهمزة الاستفهام، ومَدَّه على وجه الإنكار، ونصب (البِرَّ) على أنه مفعول (تُرَوْنَ) مقدَّمًا.
          وعن الخطابي في قوله: (آلْبِرَّ يَقُوْلُوْنَ بِهِنَّ) يريد: البرَّ تظنون بهنَّ في صنيعهنَّ هذا.
          قال الشاعر:
متى تقول القُلص الرواسما                     يلحقن أم عاصم وعاصما
          قال: أي: متى تظني.
          وقال الفرَّاء: والعرب تجعل ما بعد القولِ مرفوعًا على الحكاية، فتقول: عبد الله ذاهبٌ، وقلت: إنك قائم. هذا في جميع القول إلا في القول وحدَها في حروف الاستفهام، وأنشد:
أما الرحيل فدون بعد غدٍ                     فمتى تقول الدارَ تجمعنا
          بنصب «الدار» كأنه يقول: فمتى تظن الدارَ تجمعنا.
          وأضاف سيبويه الرفع في قوله: «الدار تجمعنا» على الحكاية.
          وقولها: (فَيُصَلِّي الصُّبْحَ ثُمَّ يَدْخُلُهُ) احتج به من يقول: يبدأ بالاعتكاف من أول النهار، وبه قال الأوزاعي، والثوري، والليث في أحد قوليه.
          وذهبت الأئمة الأربعة إلى جواز دخوله قبل غروب الشمس إذا أراد اعتكاف شهر أو اعتكاف عشر، وتأولوا أنه دخل المعتَكَفَ وانقطع فيه، وتخلَّى بنفسه بعد صلاة الصبح؛ لا أن ذلك وقت ابتداء الاعتكاف؛ بل كان من / قبل المغرب مُعتكفًا لابثًا في المسجد، فلما صلَّى الصبح انفرد.
          قال القرطبي: وهل يبيتُ ليلةَ الفطر في معتكفه ولا يخرج منه إلا إذا خرَج لصلاة العيد فيصلي، وحينئذ يخرج إلى منزله؟ أو يجوز له أن يخرج عند غروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان؟ قولان للعلماء:
          الأول: قول مالك وأحمد وغيرهما، واختلف أصحاب مالك إذا لم يفعل هل يبطل اعتكافه أم لا يبطل؟ قولان.
          وذهب الشافعي والليث والزهري والأوزاعي في آخرين إلى أنه يجوز خروجُه ليلة الفطر، ولا يلزمه شيء.
          وقولها في حديث صفية: «قَامَتْ لِتَنْقَلِب» [خ¦2035] أي: تنصرف إلى منزلها، يقال: قلبه يقلبه، وانقلب هو إذا انصرف.
          قال ابن التين: في رواية سفيان عند البخاري [خ¦2039]: (فَأَبْصَرَهُ رَجُلٌ مِنَ الأَنْصَارِ) لعله وَهَم؛ لأنَّ أكثرَ الروايات: «فأبصرَه رجلان».
          قال القرطبي: يحتمل أن يكون هذا مرتين، أو يحتمل أن يكون صلعم أقبل على أحدهما بالقول بحضرة الآخر، فيصحُّ على هذا نسبة القصةِ إليهما جميعًا وأفرادًا.
          وقولها: (فَسَلَّمَا) فيه جواز التسليم على رجل معه امرأةٌ بخلاف ما يقوله بعض الأغبياء.
          وقوله: (عَلَىْ رِسْلِكُمَا) أي: على هينتكما، قال ابن فارس: الرَّسْل السَّير السهل، وضبطه بالفتح، وهذه اللفظة بكسر الراء وبالفتح، قيل: بمعنى التؤدة وترك العجلة، وقيل: بالكسر التؤدة، وبالفتح اللين والرفق، والمعنى متقارب.
          وفي رواية أخرى: «تعاليا»، قال النووي: معناه قفا، ولم يُرد المجيء إليه، قال تعالى: {تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ}[آل عمران:64]. قال ابن التين: فأخرجه عن معناه، وهو هلما بغير دليل واضح.
          وقال ابن قتيبة: تعالى تفاعل من علوت، قال الفراء: أصلها عال البناء، وهو من العلو، ثم إن العربَ لكثرة استعمالهم إياها صارت عندهم بمنزلة هلمَّ، حتى استجازوا أن يقولوا للرجل وهو فوق شرف: تعال؛ أي: اهبط، وإنما أصلها الصعود.
          وقوله: (إِنِّيْ خَشِيْتُ أَنْ يُلْقِيَ الشَّيْطَانُ / فِيْ قُلُوْبِكُمَا شَيْئًا) وفي رواية: «شرًا»، يريد بذلك شفقته على أمته، وصيانة قلوبهم، فإنَّ ظنَّ السوء بالأنبياء _صلوات الله عليهم وسلامه_ كفر بالإجماع، ولهذا إن البزَّار لما ذكر حديث صفية هذا قال: هذه أحاديث مناكير؛ لأنَّ النبيَّ صلعم كان أطهر وأجل من أن يرى أن أحدًا يظن به ذلك، ولا يَظنُّ برسول الله صلعم ظنَّ السوء إلا كافرٌ أو منافق.
          فقيل له: لو كان حقًا كما قلت لما احتاج أن يقول صلعم في ذلك شيئًا؛ لأن الكفر بالله أعظم من ذلك، وإن كان منافقًا فحاله حال الكافر، وإن كان مسلمًا فمثل هذا الظنِّ بالنبيِّ صلعم يخرجه من الإسلام، فهذه الأخبار عندنا ليست بثابتة.
          فإن قال قائل: هذه الأخبار قد رواها قوم ثقات، ونقلها أهل العلم بالأخبار؟
          قيل له: العلة التي بيَّناها لا خفاء بها، ويجب على كلِّ مسلم القول بها، والذبُّ عن رسول الله صلعم، وإن كان الرَّاوون لها ثقات، فلا يَعرونَ من الخطأ والنسيان والغلط.
          ولما ذكر أبو الشيخ هذا الحديث بوَّب له: ذِكْرُ خبرٍ روي عن رسول الله صلعم أنه رُئِيَ مع إحدى نسائه فمرَّ به رجل فقال: هذه زوجتي، وأن ذلك غير محفوظ.
          وفيه استحباب التحرز من التعرض لسوءِ الظن وطلب السلامة، والاعتذار بالأعذار الصحيحة تعليمًا للأمة.
          وقوله: (يَجْرِيْ مِنِ ابْنِ آدَمَ مَجْرَى الدَّمِ) قيل: هو على ظاهره، وأن الله جلَّ وعزَّ جعل له قوَّةً على ذلك.
          وقيل: هو على الاستعارة لكثرة أعوانه ووسوسته، فكأنه لا يفارق الإنسان كما لا يفارقه دمه.
          وقيل: إنه يُلقِي وسوستَه في مسام لطيفة من البدن فتصل الوسوسة إلى القلب.
          وزعم ابن خالويه في كتاب «ليس»: أن الشيطان ليس له تسلط على الناصية، وعلى أن يأتي العبد من فوقه، قال الله جلَّ وعزَّ: {ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ}[الأعراف:71]. ولم يقل: من فوقهم؛ لأن رحمة الله تعالى تنزل من فوق.
          واستدل الطحاوي بشغله صلعم / بصفية على جواز اشتغال المعتكِفِ بالمباح من الأفعال، وإذا خرج المعتكف لحاجةٍ قنَّع رأسَه حتى يرجع، رويناه في كتاب ابن أبي عاصم: حدَّثنا محمد بن إِشْكاب: حدَّثنا يونس بن محمد: حدَّثنا الهيَّاج بن بِسْطام، عن عيينة بن عبد الرحمن، عن عبد الخالق، عن أنس قال رسول الله صلعم: «المعتكف يعود المريضَ ويتبع الجنازةَ، وإذا خرج لحاجته قنَّع رأسه».
          قال ابن العربي: ولا يتعدَّى في خروجِهِ أقربَ المواضعِ إليه، فإن تعدَّى أقربَ المواضع إليه ابتدأَ اعتكافه من ذي قبل، كذا قال مالك.
          ولا يجوز له أن يقف لأداء شهادة إلا ماشيًا، فإن وقف ابتدأ، ولا يعزي أحدًا، ولا يصلي على جنازة إلا في المسجد، ولا يخيط ثوبَه إلا الشيء الخفيف.
          قال ابن العربي: واجمع العلماء على أن من وَطِئ زوجته في اعتكافه عامدًا في ليل أو نهار فسد اعتكافه، وروي عن ابن عباس ومجاهد أنهما قالا: كانوا يجامعون وهم معتكفون حتى نزلت: {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}[البقرة:187].
          وعن ابن عباس: «كانوا إذا اعتكفوا فخرج أحدهم إلى الغائط جامع امرأته ثم اغتسل ورجع إلى اعتكافه فنزلت الآية».
          واختلفوا فيما دونه من القُبلة واللمس والمباشرة، فقال مالك: من فعل من ذلك شيئًا ليلًا أو نهارًا فسد اعتكافه، أنزل أو لم ينزل.
          واختلف في المعتكفة معه صلعم من هي؟ ففي رواية: «سودة».
          وفي «الموطأ»: أن زينب بنت جحش استحيضت وكانت تحت ابن عوف، قال المنذري: هذا وهم من وجهين:
          الأول: أنها لم تكن تحت عبد الرحمن بن عوف؛ إنما كانت تحت زيد بن حارثة.
          الثاني: أنها لم تستحض قط، إنما استحيض أختاها حمنة وأم حبيبة، وذكر بعضهم أن بنات جحش الثلاثة اسمهن زينب، وأنهن استحضن كلهن، واستبعده بعضهم.
          وقال ابن الجوزي: ما نعلم في زوجاته مستحاضة، وكأن عائشة أرادت بقولها: «من نسائه» أي: من النساء المتعلقات به بسبب صَهارة وشبهها. انتهى.
          يرد هذا ما تقدم في / الطهارة أن بعض أمهات المؤمنين اعتكفت معه.
          قال ابن بطال: لا خلاف بين العلماء في جواز اعتكاف المستحاضة، فإن حاضت، فعن الزهري وربيعة ومالك والأوزاعي وأبي حنيفة والشافعي: تخرج إلى دارها، فإذا طهرت فلترجع ثم لتبن على ما مضى من اعتكافها، وعن أبي قِلابة: تضرب خباءها على باب المسجد ما دامت حائضًا.
          وقولها: «فَتَضَعُ الطَّسْتَ تَحْتَهَا» وذلك لا يكون إلا في حال قيامها، وذكرته عائشة ليستن به، فإن أرادت البول في المسجد في طست لم يصح لها ذلك.
          قال ابن قدامة: وكذلك الفصد والحجامة، فإن دعت الحاجة خرج من المسجد، وعن ابن عَقيل: يجوز الفصد في طست كالمستحاضة، قال ابن قدامة: والفرق بينهما أن المستحاضة لا يمكنها التحرز إلا بترك الاعتكاف بخلاف الفصد..