الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري

باب يمين الرجل لصاحبه إنه أخوه إذا خاف عليه القتل أو نحوه

          ░7▒ قوله: (يَذُبُّ) أي يدفع، وفي بعضها: <يَدْرَأُ>، و(دُونَهُ): أي عنده، و(لاَ يَخْذُلُهُ): أي لا يمهله.
          فإن قلتَ: لم كرر القود إذ هو القصاص بعينه؟ قلتُ: لا تكرار إذ القصاص أعم من أن يكون في النفس، والقود يستعمل غالبًا في القود أو هو تأكيد.
          قوله: (كُلُّ عُقْدَةٍ) مبتدأ خبره محذوف، أي كذلك بأن يقول: أو لتقرضنَّ أو لتؤجِّرنَّ ونحوه، وفي بعضها: <أَوْ تَحُلُّ عُقْدَةً> أي تفسخها، وذكر (فِي الإِسْلاَمِ) ليجعله أعمَّ مِن الأخ القربي من النسب.
          و(وَسِعَهُ ذَلِك): أي جاز له الأكل والشرب والإقرار والهبة لتخليص الأب أو الأخ في الدين _يعني المؤمن_ عن القتل لقوله عليه السلام: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ لا يظلمه ولا يسلمه))، أي لا يخذله.
          قوله: (بَعْضُ النَّاسِ) قالوا: أراد به الحنفيَّة، والمحرَم هو مَن لا يحلُّ نكاحها أبدًا لحرمته.
          قال المهلَّب: موضع التناقض الذي ألزمه البخاريُّ أبا حنيفة هو أنَّ ظالمًا لو أراد قتل رجلٍ وقال لابنه : (لَتَشْرَبَنَّ الخَمْرَ أَوْ لَتَأْكُلَنَّ الْمَيْتَةَ أَوْ لأَقْتُلَنَّ أَبَاكَ أَوْ ابْنَكَ أَوْ ذَا رَحِمٍ لَمْ يَسَعْهُ) لأنَّه (لَيْسَ بِمُضْطَرٍّ) عند أبي حنيفة، وإنَّما لم يكن عنده مضطرًا لأنَّ الإكراه إنَّما يكون فيما يتوجَّه إلى الانسان في خاصَّة نفسه لا في غيره وليس له أنْ يدفع بها معاصي غيره وليصبر على قتل ابنه فإنَّه لا إثم عليه لأنَّه لم يقدر على دفعه إلَّا بمعصيةٍ يرتكبها ولا يحلُّ له ذلك، ألا ترى إلى قوله إن قيل له: لأقتلنَّ (أَبَاكَ أَو) نحوه مِن المحارم.
          (أَوْ لَتَبِيعَنَّ هَذَا العَبْدَ أَوْ تُقِرُّ أَوْ تَهَبُ) أنَّ البيع والإقرار والهبة (يَلْزَمُهُ فِي القِيَاسِ) لما تقدَّم أنَّه يصبر على قتل ابنه وعلى هذا ينبغي أن يلزمه كلُّ ما عقد على نفسه مِن عقدٍ ثمَّ ناقض هذا المعنى بقوله: (وَلَكِنَّا نَسْتَحْسِنُ وَنَقُولُ البَيْعُ وَكُلُّ عَقدٍ فِي ذَلِكَ بَاطِلٌ) فاستحسن بطلان البيع ونحوه بعد أنْ قال (يَلْزَمُهُ فِي القِيَاسِ) ولا يجوز له القياس فيها.
          قال: وقول البخاريِّ (فَرَّقُوا) يريد أنَّ مذهب أبي حنيفة في ذي الرحم بخلاف مذهبه في الأجنبيِّ، فلو قيل لرجلٍ: لتقتلنَّ هذا الرجل الأجنبيَّ (أَوْ لَتَبِيعَنَّ أَوْ لتقرَّ أَوْ تَهَبُ) ففعل ذلك لينجيه مِن القتل لزمه جميع ما عقد على نفسه مِن ذلك، ولو قيل له ذلك في المحارم لم يلزمه ما عقده في استحسانه.
          وعند البخاريِّ ذو المحرم والأجنبيُّ سواءٌ في أنَّه لا يلزمه ما عقد على نفسه لتخليص الأجنبيِّ لقوله عليه الصلاة والسلام: ((الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ)) والمراد أخوَّة الإسلام لا أخوَّة النسب.
          وكذا قول إبراهيم عليه السلام في زوجته: (هي أُخْتِي) يريد أخوَّة الاسلام، وهذه الأخوَّة توجب حماية أخيه المسلم والدفع عنه فلا يلزمه ما عقده مِن البيع ونحوه ووسعه الشرب والأكل ولا إثم عليه في ذلك كما لو قيل له: لتفعلنَّ هذه الأشياء أو لنقتلنَّك، وسعه في نفسه إتيانها ولا يلزمه حكمها. /
          أقول: في تقريره بحثان الأوَّل أنَّه إنَّما يستقيم لو كان الرواية لأقتلنَّ، لكن في جميع النسخ والروايات (لَتَقْتُلَنَّ) بالخطاب على طريقة إخوانه، اللهم إلَّا أنْ يقرأ: لنقتلن، بصيغة المتكلِّم.
          الثاني: أنَّه مشعرٌ بعدم لزومه في القياس لا بلزومه فيه لأنَّه علَّل الصبر على قتل ابنه بأنَّه لا يقدر على دفعه إلَّا بمعصيةٍ يرتكبها وليس كذلك في صورة البيع.
          وأقول: ويحتمل أنْ يقرَّر على وفق ما في النسخ بأن يقال: إنَّه ليس بمضطرٍّ لأنَّه مخيَّرٌ في أمورٍ متعدِّدةٍ والتخيير ينافي الإكراه، فكما لا إكراه في الصورة الأولى أي الأكل والشرب والقتل كذلك لا إكراه في الثانية، أي البيع والهبة والقتل.
          فحيث قالوا ببطلان البيع استحسانًا فقد ناقضوا، إذ يلزم القول بالإكراه، وقد قالوا بعدم الإكراه ثمَّ فرقهم بين ذي المحرم وغيره بشيءٍ قالوه لا يدلُّ عليه كِتَابٌ وَلاَ سُنَّةٌ إذ ليس فيهما ما يدلُّ على الفرق بينهما في باب الإكراه، وهذا أيضًا كلامٌ استحسانيٌّ، وما ذكره البخاريُّ مِن أمثال هذه المباحث غير مناسبٍ لوضع هذا الكتاب، إذ هو خارجٌ عن فنِّه، والله أعلم.
          قوله: (وَذَلِكَ فِي اللهِ) فإنْ قلتَ: تقدَّم في كتاب الأنبياء أنَّه صلعم قَالَ : ((لم يَكذِب إِبْرَاهِيمُ إلَّا ثلاث كذباتٍ، ثنتين منها في ذات الله، قوله: {إِنِّيْ سَقِيْمٌ} [الصافات:89]، {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيْرُهُمْ} [الأنبياء:63]))، فيفهم منه أنَّ الثالثة وهي (هَذِهِ أُخْتِي) ليست في ذات الله.
          قلتُ: معناه أنَّها أختي في دين الله، أو أشار ثمَّة إلى أنَّهما محض الأمر الإلهيِّ بخلاف الثالثة فإنَّ فيها شائبة نفعٍ وحظٍّ له.
          قوله: (النَّخَعِيُّ) بالنون والمعجمة المفتوحتين إبراهيم.
          فإن قلتَ: كيف يكون (الْمُسْتَحْلِفُ مَظْلُومًا)؟ قلتُ: المدَّعي المحقُّ إذا لم تكن له بيِّنةٌ ويستحلفه المدَّعى عليه فهو مظلومٌ، وعند المالكيَّة النيَّة نِيَّةُ المظلوم أبدًا، وعند الكوفيَّة النيَّة نِيَّةُ الحَالِفِ أبدًا، وعند الشافعيَّة نِيَّةُ القاضي وهي راجعةٌ إلى نِيَّة الْمُسْتَحْلِفِ.