التلويح شرح الجامع الصحيح

باب حق الضيف في الصوم

          ░54▒ [باب حق الضيف في الصوم]
          ♫
          اللهم صلِّ على سيِّدنا سيِّدِ المخلوقين محمد، وآله وصحبه وسلم.
          [قوله:] «إِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا» [خ¦1974] الكلام على الزَّور والزَّوج تقدم في أول كتاب الصلاة، وحقُّها هنا يريد الوطء، فإذا شدَّد الصوم، ووالى قيام اللَّيل ضعف عن حقها.
          وفي رواية: «وإنَّ لأهلك» بدل «زوجتك»، والمراد بهم هنا: الأولاد والقرابة، ومن حقهم الرفق بهم، والإنفاق عليهم وشبه ذلك.
          وحقُّ الجسم قال المهلَّب: هو أن يترك فيه من القوة ما يستديم به العمل؛ لأنه إذا أجهد نفسَه قطعها عن العبادة وفترت، كما قال في الحديث المروي عند أبي داود: «إن المنبتَّ لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى».
          قال المبرد: «المنبتَّ» المسرع في السير، فكأنه إذا فعل ذلك رقَّت دابَّتُه ولم يبلغ منزلَه.
          وقوله: (هَجَمَتْ عَيْناكَ) أي: غارتا ودخلتا.
          وعن صاحب «العين»: هجَمَ هجومًا وهَجْمًا.
          وعن أبي عمرو: والكثير إهجام.
          وعن الأصمعي: انهجمت عينُه دَمَعَتْ، ذكره في «الموعَب».
          وقال القرطبي: هَجَمَتْ عليَّ الضررُ دفعةً واحدةً، والهجم: أخذ الشيء بسرعة، قال: ويحتمل أن يكون هَجَمَتْ بغلبةِ النوم وكثرة السَّهر.
          وقوله: (بِحَسبِكَ) أي: يكفيك أن تصوم ثلاثة أيام.
          وفي رواية: «صم من كلِّ عشرة يومًا».
          وقد جاء في النسائي بسند صحيح عن جرير قال صلعم: «صيام ثلاثة من كل شهر صيام الدهر، الأيامُ البيض: صبيحة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمسة عشرة».
          قال القرطبي: كذا رويناه عن مُتقِني شيوخنا برفع «أيام وصبيحة» على إضمار المبتدأ، كأنه قال: هي أيام البيض، عائدًا على ثلاثة أيام، و«صبيحة» يرتفع على البدل من أيام، ومن خفض فيهما على البدل من «أيام» المذكورة.
          وذكر الجواليقي في كتاب «ما تخطئ فيه العامَّة» من ذلك قولهم: الأيام البيض / يجعلون البيضَ وصفًا للأيام، والأيام كلُّها بيض، وهو غلط، والصواب أن يقال: أيام البيض، أي: أيام الليالي البيض؛ لأن البيض وصف لها دون الأيام.
          قال القرطبي: وعلى التقديرين هذا الحديث مقيِّدٌ لمطلق الثلاثة الأيام التي صومها كصوم الدهر، ويحتمل أن يكون النبي صلعم عيَّن هذه الأيام؛ لأنها وسط الشهر وأعدلُه كما قال: «خير الأمور أوساطها».
          واختلف في أيِّ أيام الشهر أفضل للصوم؟
          فقالت جماعة من الصحابة والتابعين؛ منهم [ابن] عمر وابن مسعود وأبو ذر: صوم الأيام البيض أفضل.
          وقال النخعي: آخره أفضل.
          وقالت فرقة منهم الحسن.
          وقالت عائشة عند الترمذي محسنًا: أول يوم من السبت والأحد والاثنين في شهرٍ، ثم الثلاثاء والأربعاء والخميس.
          واختار بعضهم الاثنين والخميس.
          وفي حديث ابن عمر: «كان سيدنا رسول الله صلعم يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، أول اثنين، والخميس الذي بعده، والخميس الذي يليه».
          وفي حديث عائشة عند مسلم: «كان لا يبالي من أيِّ الشهر صام».
          وحاصله: صيام ثلاثة أيام من كل شهر حيث صامها في أيِّ وقت أوقعها، كما قالت عائشة، واختلاف الأحاديث تدل على أنه لم يرتب على زمن بعينه من الشهر.
          وقال ابن التين: صيامها حسن ما لم يعينها.
          وسُئِل مالك عن صومها فقال: ما هذا ببلدنا وكرهه، وقال: الأيام كلها لله تعالى. انتهى.
          ذكر علي بن الفضل المقدسي: أن في رسالة مالك إلى هارون أنه أمره بصيامها، وقال: بلغني عن النبي صلعم أنه قال: «ذلك صيام الدهر»، إلا أنه تكلّمَ في إسنادها _يعني الرسالة_ وهي مذكورة في «سنن الكَجِّي» وهو ثقة إمام.
          وقال الباجي: روي في إباحة تعمدها أحاديث لا تثبت.
          وقال الطبري: الصواب عندي أن جميع الأخبار عن النبي صلعم في هذا صحاح.
          ال ابن التين: واختلف القائلون بإباحة / تعمد صومها على أربعة أقوال في تعيينها:
          فكان أبو الدرداء يصوم أول يوم، واليوم العاشر، ويوم عشرين، قال ابن حبيب: وأخبرني حبيب أن هذا كان صوم مالك، انتهى.
          قال أبو الوليد الباجي: عندي في هذا نظر؛ لأن رواية [ابن] حبيب عن مالك فيها ضعف، ولو صحَّت لكان المعنى: أن هذا كان مقدار صوم مالك، فأما أن يتحرَّى صيامَ هذه الأيام فإنَّ المشهور عن مالك منع ذلك.
          وقال سُحنون: يصوم أوله، كأنه اعتمد ما رويناه في كتاب «الصيام» للقاضي يوسف بن إسماعيل _بسند جيد_ عن ابن مسعود: «أن النبي صلعم كان يصوم من عشرة كل شهر ثلاثة أيام».
          وقال الشيخ أبو إسحاق: أفضل صيام التطوع أول يوم من الشهر في العشر الأول، ويوم أحد عشر في العشر الثاني، ويوم أحد وعشرين في العشر الثالث.
          وقال المتولي وغيرُه: صوم داود صلعم أفضل من السرد.
          قال النووي: وفي كلام غيره إشارة إلى تفضيل السرد، وتخصيص هذا الحديث بابن عمرو ومن في معناه، تقديره: لا أفضل من هذا في حقك، يؤيِّدُ هذا أنه لم ينه حمزة بن عمرو عن السرد، ولو كان ما قاله لابن عمرو أفضل في حق كل الناس لأرشد حمزةَ إليه وبيَّنه له.
          وأما صوم الدهر فقد اختلف العلماء فيه:
          فذهب أهل الظاهر إلى منعه أخذًا بظاهر أحاديث النهي عن ذلك.
          وذهب جماهير العلماء إلى جوازه إذا لم يصم الأيام المنهي عنها كالعيدين والتشريق، وهو مذهب الشافعي بغير كراهة؛ بل هو مستحب.
          وورينا في «سنن الكَجِّي»: حدثنا أبو عمر الحَوْضِي: حدَّثنا الضحاك بن يسار، عن أبي تميمة الهجيمي، عن أبي موسى، قال رسول الله صلعم: «من صام الدهر ضُيِّقت عليه جهنم هكذا، وضم أصابعه على تسعين».
          وعند ابن ماجه عن ابن عمرو قال رسول الله صلعم: «صام نوح صلعم الدهر إلا يومين: الأضحى والفطر»، وفي سنده ابن لهيعة.
          قال ابن التين: استدلَّ من منع صومَ الدهر من خمسة أوجه / : أحدها: قوله في الحديث: «ولا تَزِدْ»، ولم يكن صلعم ينهى عن فعل الأفضل.
          الثاني: قوله: «صم وأفطر» ولم يكن ليأمر بالأدنى بقوله: «وأفطر».
          والثالث: قوله: «لا أفضل من ذلك».
          الرابع: دعاؤه على من صام الأبد.
          الخامس: أنه إن فعل ذلك كان في معنى من لم يؤجر لقوله: «لا صام ولا أفطر»، يريد أنه ما أفضل لأنه أمسك، ولا صام لأنه لم يكتب له فيه أجر الصيام.
          وأجاز مالك وابن القاسم وأشهب صيام الدهر، وهو مذهب سائر الفقهاء.