كفاية القاري في شرح ثلاثيات البخاري

حديث سلمة: أن النبي أتي بجنازة، ليصلي عليها

          الحديثُ الثامنُ:
          من ثلاثياتِ البخاريِّ هو ما أخرجَهُ [في ((باب] مَنْ تكفل عن ميتٍ دينًا، فليس له أن يرجعَ)) فقال: (حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ) هو الضحاكُ بن مَخْلَدٍ النبيلُ الشَّيبانيُّ البصريُّ، قد تقدَّمَ بيانُهُ مفصلًا، وهو من كبارِ مشايخِ البخاريِّ (عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ) الأسلميِّ، مولى سلمة (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ ☺: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم أُتِيَ بِجَنَازَةٍ) بضمِّ الهمزةِ، ليُصَلِّي عليها، وذلكَ لأنهُ صلعم كان على الصلاةِ على كلِّ من تُوُفِّيَ من أصحابهِ حريصًا، حتى قالَ: لا يموتنَّ أحدٌ منكم إلا أَذَنْتُمُوْنِي بهِ، فإنَّ صلاتي عليهِ رحمةٌ له (فَقَالَ: هَلْ عَلَيْه) / أي الميتُ، من (دَيْنٍ؟، قَالُوا: لاَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالَ: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ؟، قَالُوا: نَعَمْ) عليه دينٌ، زادَ في الروايةِ السابقةِ: ثلاثةُ دنانيرَ (قَالَ: صَلُّوْا عَلَيْهِ) ولأبي ذرٍّ: فصلُّوا (عَلَى صَاحِبِكُمْ. قَالَ: أَبُو قَتَادَة) الحارثُ بن رِبْعِيٍّ الأنصاريِّ (عَلَيَّ دَيْنُهُ) ولابنِ ماجَه: «أَنَا أَتَكَفَّلُ بِهِ» (يَا رَسُوْلَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْكَ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى عَلَيْهِ) صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلامُهُ عَلَيْهِ، وهذا طريقٌ ثاني، للحديثِ السابقِ لاختلافٍ في السَّندِ وألفاظِ المتنِ، واقتصرَ فيهِ على اثنينِ من الأمواتِ الثلاثةِ المذكورةِ في الروايةِ السابقةِ، فَيُفْهَمُ منهُ جوازُ اقتصارِ الحديثِ لا لأهله، وقد سبقَ في الحديثِ السابقِ بيانُ ما يتعلَّقُ بهذا الحديثِ مُفصلًا، ومما يُناسبُ ذكرَهُ بالحديثينِ بيان ما يتعلَّقُ بالصلاة على الميتِ، فلنذكرُهُ هَهنا مُجملًا:
          قالَ المحققُ ابنُ الهُمَامِ ما حاصلُهُ: هي فرضُ كفايةٍ، ومما استدلَّ به على ذلكَ قوله ╕: «صَلُّوْا عَلَى صَاحِبِكُمْ» فلو كانَ فرضَ عينٍ لم يتركْ ╕ الصلاةَ عليهِ، وشرطُ صحتِهَا إسلامُ الميتِ وطهارَتُهُ، ووضعهُ أمامَ المُصَلِّي، وإذا دُفِنَ بلا غُسْلٍ، ولم يكن إخراجُهُ إلا بالنبشِ سقطَ هذا الشرطُ، أي طهارةُ الميتِ، وصلَّى على قبرِهِ بلا غسلٍ للضرورةِ، وأولى الناسِ بالصلاة عليهِ الخليفةُ، إن حضرَ ثمَّ إمامُ المصرِ وهو سُلطانُهُ، ثم القَاضِي، ثم صاحبُ الشَّرطِ، ثم خليفةُ الوالِي، ثم خليفةُ القاضِي، ثم إمامُ الحيِّ، ثم وليُّ الميتِ.
          وقال أبو يوسفَ: الوليُّ أولى مطلقًا، وهو روايةٌ عن أبي حنيفةَ ☼ وبه قالَ الشافعيُّ ☼ لأن هذا حكمٌ يتعلقُ بالولايةِ كالإنكاحِ، فيكونُ الوليُّ مُقَدَّمًا على غيرهِ.
          وكَيْفِيَّةُ الصلاةِ عليهِ أن يكبرَ تكبيرةً بحمدِ اللهِ / عَقيبها.
          عن أبي حنيفةَ يقولُ: ((سبحانكَ اللهُمَّ وبحمدكَ، وتباركَ اسمكَ وتعالى جدُّكَ، ولا إلهَ غيرُكَ))، قالوا: لا يقرأُ الفاتحةَ إلا أن يقرأَ بنيَّةِ الثناءِ، ويُصَلِّي على النبيِّ صلعم بعد تكبيرةِ الثانيةِ كما يُصلي في التشهدِ، وهو الأَوْلى، ثم يَدعو في الثالثةِ للميتِ ولنفسهِ ولأبويهِ وللمسلمينَ، ولا توقيتَ في الدعاءِ، وإن دعى بالمأثورِ فما أحسنهُ وأبلغَهُ، فمِنَ المأثورِ: اللَّهُمَّ اغفرْ لِحَيِّنَا وميتِنا وشاهدنَا وغائبنا، وصغيرِنا وكبيرنا، وذكرِنَا وأُنثانَا، اللهمَّ من أحييتهُ مِنَّا فأحيِّهِ على الإسلامِ، ومن تَوَفَّيْتَهُ منا فتوفَّهُ على الإيمانِ.
          ومن المأثورِ حديثُ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ: أَنَّهُ صَلَّى مَعَ رَسُوْلِ اللهِ صلعم عَلَى الجَنَازَةِ، فَحَفِظَ مِنْ دُعَائِهِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ، وعَافِهِ وَاعْفُ عَنْهُ، وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ، واغْسِلْهُ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَدِ، ونَقِّهِ مْنَ الخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الأَبْيَضُ مِنَ الدَّنَسِ، وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ، وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ، وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ، وَأَدْخِلْهُ الجَّنَةَ، وَأَعِذْهُ مِنْ عَذَابِ القَبرِ وَعَذَابِ النَّارِ، قَالَ عَوْفٌ: حَتَّى تَمَنَّيْتُ أَنْ أَكُوْنَ ذَلِكَ المَيِّتُ». رواهُ مسلمٌ والترمذيُّ والنسائيُّ.
          وفي ((موطأ مالكٍ)): عمَّن(1) سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ كَيْفَ تُصَلِّي عَلَى الْجَنَازَةِ؟ فَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «أَنَا، لَعَمْرُكَ اللهِ أُخْبِرُكَ. أَتَّبِعُهَا مِنْ عِنْدِ أَهْلِهَا. فَإِذَا وُضِعَتْ كَبَّرْتُ، وَحَمِدْتُ اللهَ. وَصَلَّيْتُ عَلَى نَبِيِّهِ». ثُمَّ أَقُولُ: «اللَّهُمَّ عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ. وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ. وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ. اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إِحْسَانِهِ. وَإِنْ كَانَ مُسِيْئًا فَتَجَاوَزْ عَنْ سَيِّئَاتِهِ. اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ، وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ».


[1] في المخطوط: « أن عمر».