كفاية القاري في شرح ثلاثيات البخاري

حديث أنس: أن ابنة النضر لطمت جاريةً، فكسرت ثنيتها

          الحديثُ العشرونَ:
          من ثلاثياتِ الإمامِ البخاريِّ، هو ما أخرجهُ من الدِّياتِ أيضًا في ((بابِ السِّنِّ بالسِّنِّ)) فقالَ: (حَدَّثَنَا الأَنْصَارِيُّ)(1) هو محمدُ بنُ عبدِ الله بن المُثنى البصريُّ (قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ الطَّوِيْلُ عَنْ أَنَسٍ ☺ أَنَّ ابْنَةَ النَّضْرِ) بالنونِ المفتوحةِ والضادِ المُعجمةِ الساكنةِ، وهو جدُّ أنسٍ، واسم ابنته الرُّبَيِّعِ بضمِّ الراءِ وفتحِ الموحدةِ وتشديدِ التحتيةِ المكسورةِ (لَطَمَتْ جَارِيَةً) وفي روايةٍ للفزاري: جاريةٌ من الأنصارِ، وفي روايةِ مُعْتَمِرٍ عندَ أبي داودَ: ((إمرأةً))، بدلَ جاريةً.
          وفيهِ أنَّ المرادَ بالجاريةِ المرأةُ الشابَّةُ لا الأمةُ الرقيقةُ.
          (فَكَسَرَتْ ثَنِيَّتَهَا) فعرضوا عليهم الأرشَ فأبوا (فَأَتَوْا) أي أتى أهلُها (إِلَى النَّبِيِّ صلعم) يطلبونَ القصاصَ (فَأَمَرَ بِالقِصَاصِ) وهو محمولٌ على أن الكسرَ كان منضبطًا، وأمكنَ القصاصَ بأن يُنْشَرَ بمنشارٍ.
          يقولُ أهلُ الخبرةِ: هذا بخلافِ غير السنِّ من العظامِ لعدمِ الوثوقِ بالمماثلةِ.
          قالَ الشافعيُّ: ولأنَّ دونَ العظمِ حائلٌ من جلدٍ ولحمٍ يتعذرُ معه المماثلةُ، وهذا مذهبُ الشافعيةِ والحنفيةِ.
          وقال المالكيةُ: لا قودَ في العظامِ إلا إن كان مُجَوَّفًا أو كان كالمأمومةِ والمنقلةِ والهاشِمَةِ ففيها الديةُ.
          قال في ((الفتحِ)) في((بابِ قتلِ الرَّجلِ بالمرأةِ)) في أثناءِ شرحِ ما ذكرهُ البخاريُّ تعليقًا قوله: ((وَجَرَحَتْ أُخْتُ الرُّبَيِّعِ إِنْسَانًا، فقالَ النبيُّ صلعم: / القصاصَ))، كذا لهم، ووقع للنسفيِّ: «كتابُ الله القصاصُ»، قال أبو ذرٍّ: كذا وقع هنا، والصواب الرُّبَيِّعُ بنت النضر عمَّةُ أنسٍ.
          وقال الكِرْمَانِيُّ: قيل: إنَّ الصواب وجَرَحَتْ الرُّبَيِّعُ، بحذفِ لفظ أختٍ، فإن الموافقَ لما تقدمَ عن المغيرةِ من وجهٍ آخرَ عن أنسٍ أن الربيعَ بنت النضرِ عمَّتُهُ كسرَتْ ثنيَّةَ جاريةٍ، فقالَ رسولُ اللهِ صلعم: كتابُ اللهِ القصاصُ [خ¦4500].
          قال: اللهم إلا أن يُقالَ أن هذه إمرأةٌ أخرى لكنهُ لم ينقلْ عن أحدٍ، كذا قال وقد ذكرَ جماعةٌ أنهما قضيتانِ، والمذكورُ هنا طرفٌ من حديثٍ أخرجَهُ مسلمٌ من طريقِ حمَّادِ بنِ سلمَةَ عن ثابتٍ عن أنسٍ أن أختَ الرُّبيعِ أمُّ حارثةَ جرحتْ إنسانًا فاختصموا إلى النبيِّ صلعم، فقال: القصاصَ، فقالت أمُّ الربيعِ: يا رسولَ اللِه أيُقتصُّ من فلانةٍ والله لا نقتصُّ منها [فقالَ: سبحانَ الله يا أمَّ الرُّبيعِ، القصاصُ كتابُ اللهِ] فما زالت حتى قَبِلُوْا الدِّيةَ، فقال: إنَّ من عبادِ اللهِ من لو أقسمَ على اللهِ لأبرَّهُ.
          قال النوويُّ: قالَ العلماءُ المعروفُ روايةُ البخاريِّ، ويَحْتَمِلُ أن يكونا قضيتين.
          قلتُ: وجزمَ ابنُ حزمٍ بأنَّهُمَا قصتانِ صحيحتانِ وقعتْ لإمرأةٍ واحدةٍ، إحداهُما أنها جرحَتْ إنسانًا فقُضيَ عليها [بالضمان، والأُخرى أنها كسرتْ ثنيَّةَ جاريةٍ فقُضِي عليها] بالقصاصِ، وحلفت أمُّهَا في الأولى وأخوهَا في الثانيةِ، وقالَ البيهقيُّ بعد أن أوردَ الروايتينِ: ظاهرُ الخبرينِ يدلُّ على أنهما قصَّتانِ، فإن قُبِلَ هذا الجمعُ وإلا فثَابِتٌ أحفظُ من حُمَيْدٍ.
          قلت: في القصتينِ مغايراتٌ: منها: هل الجانيةُ الرُّبَيِّعُ أو أختُها، وهل الجنايةُ كسر الثنيةِ أو الجراحةِ، وهل الحالفُ أم الرُّبيعِ أو أخوهَا أنسُ بن النضرِ، وأما ما وقعَ في أولِ الجناياتِ عندَ البيهقيِّ من وجهٍ آخرَ عن حميدٍ عن أنسٍ، /
          قال: لطمتْ الرُّبيعُ بنتُ مُعَوَّذٍ جاريةً فكُسِرَتْ ثنيتُهَا، فهو غلطٌ [في ذكرِ أبيها] والمحفوظُ أنها بنتُ النضرِ عمَّةُ أنسٍ كما وقعَ التصريحُ في ((صحيحِ البخاريِّ)).
          وقد سبق بيان هذا الحديث مفصلًا في الحديث العاشر فراجِعْهُ، ولعلَّ سبب إعادته ههنا مختصرًا بيانَ حكمِ قِصاصِ السنِّ بالسنِّ صريحًا ليبين أنه ما كتبهُ الله تعالى في التوراةِ من قوله: السن بالسنِّ، ثابتٌ في دينِ نبينا محمد صلعم.


[1] في المخطوط: « الأنصار »، والصواب ما أثبت كما في البخاري.