كفاية القاري في شرح ثلاثيات البخاري

حديث سلمة: على ما توقد هذه النيران

          الحَدِيْثُ التَّاسِعُ:
          من ثلاثياتِ الإمامِ البخاريِّ:
          هو ما أخرجهُ في أبوابِ المظالمِ والغصبِ، في ((بابِ هل تُكْسَرُ الدِّنَانُ / التي فيها الخمرُ)) فَقَالَ: (حَدَّثَنَا أَبُو عَاصِمٍ الضَّحَّاكُ) بلفظِ المبالغةِ، من الضحكِ ضدَّ البكاءِ (ابْنُ مَخْلَدٍ) بفتحِ الميمِ واللام وسكونِ الخاءِ المعجمةِ بينهما، وبإهمالِ الدَّال، النبيلُ البصريُّ، السابق ذكرُهُ في الحديثِ الخامسِ (عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي عُبَيْدٍ) الأسلميِّ، مولى سلمةَ بن الأكوعِ (عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ ☺: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم رَأَى نِيْرَانًا تُوقَدُ) يوم غزوةِ خيبرَ، البلدةُ المعروفةُ على أربعِ مراحل من المدينةِ إلى الشامِ، فُتِحَتْ سنةَ سبعٍ (قَالَ: عَلَى مَا تُوقَدُ هَذِهِ النِّيرَانُ؟) بإثباتِ ألفِ "ما" الاستفهامية، مع دخولِ الجارِّ عليها، وهو قليلٌ.
          والنِّيرانُ بكسرِ النونِ، جمعُ نارٍ، والياءُ منقلبةٌ عن واوٍ، وللأَصيليِّ قال: علامَ، بحذفِ ألفِ "ما" الاستفهاميَّةِ، ولأبي ذرٍّ: «فقال: علامَ بنا»، [بفاء] قبل القاف، وحذف ألف "ما".
          فحاصلُ المعنى على أي شيءٍ سُلِّطَتْ واستوليَت هذه النيرانُ، والاستعلاءُ مجازيٌّ (قَالُوْا) ولأبي ذرٍّ قَالَ: (عَلَى الحُمُرِ) بضمِّ المهملةِ والميمِ، (الإِنْسِيَّةِ) بكسرِ الهمزةِ وسكونِ النونِ، منسوبةً إلى الإنسِ، وهم بنو آدمَ، الواحدُ إنسيٌّ، ويُقَالُ فيهِ: الأَنَسية، بفتحتينِ، قال القاضي عياضٌ: وأكثرُ رواياتِ الشيوخِ فيه، وهو المتأنِّسُ.
          وزعمَ ابنُ الأثير في كلامِ أبي مُوْسَى المَدِيْنِيِّ(1) ما يقتضي أنها بالضمِّ ثم السكونِ؛ لقولهِ: الإنسيةِ، هي التي تألفُ البيوتَ والإنسُ ضدُّ الوحشةِ، ولا حجةَ في ذلكَ، لأنَّ أبا مُوسى إنما قالهُ بفتحتينِ.
          وقد صرَّحَ الجَّوْهَرِيُّ أن الأَنَسَ بفتحتينِ، ضدُّ الوحشةِ، ولم يقعْ في شيءٍ من رواياتِ الحديثِ بضمٍّ ثم سكونٍ، مع احتمالِ جوازِهِ، نَعَمْ زَيَّفَ أبو موسى الروايةَ بكسرِ أولهِ ثم السكونِ، فقالَ ابنُ الأثيرِ: إن أرادَ من جهةِ الروايةِ فعَسَى، وإلا فهو ثابتٌ في اللُّغَةِ، ووقعَ في حديثِ أبي ثَعْلَبَةَ وغيرِهِ «الأهليَّةَ»، / بدلَ: «الإنسيةِ».
          ويؤخذُ من التَّقييدِ بها جوازُ أكلِ لحمِ الوحشيةِ (قَالَ صلعم: اكْسِرُوْهَا) أي القدورُ التي يدلُّ عليها السيِّاقُ (وَاهْرِيْقُوْهَا) بسكونِ الهاءِ، ولأبي ذرٍّ: «وَهْرِيْقُوْهَا»، بحذفِ الهمزةِ، وزيادةِ مثناةٍ تحتيةٍ قبلَ القافَ، والهاءُ مفتوحةٌ أي صُبُّوْهَا.
          قالَ الشيخُ ابنُ حجرٍ المكيُّ في ((شرحِ الشَّمائلِ)) عند ذكرِ قولِ سعدِ بنِ أَبي وَقَّاصٍ ☺: إني لأولُ رجلٍ أَهَرَقَ دمًا في سبيلِ اللهِ. بفتحِ الهاءِ وسكونِها، من الإراقةِ، قالها زائدة، وفيه لغة أخرى: هَراقُ، بفتح الهاء والحاء حينئذٍ بدلٌ من الهمزةِ، وعلى الأولى لغتانِ لهريقَ وتهريق، والهاءُ على هذا بدلٌ من حركةِ العينِ، إذ أصله أروقُ وأريقُ، فجبرُ ما لحقَ هذا من التعبيرِ، بزيادةِ الهاءِ (قَالُوْا) مستفهمينَ (أَلَا نُهْرِيْقَهَا) بضمِّ النونِ وفتحِ الهاءِ وبعد الراءِ المكسورةِ تحيتةٌ ساكنةٌ، أي من غيرِ كسرٍ (وَنَغْسِلْهَا، قَالَ) صلعم مجيبًا لهُمْ (اغْسِلُوْا) بحذفِ الضميرِ المنصوبِ، أي اغسلوها أي القدورُ، قالَ الكِرْمَانِيُّ: فإن قلتَ: لم خالَفوا أمرَ رسولِ الله صلعم؟ قلتُ: فَهموا بالقرائنِ أن الأمرَ ليس للإيجابِ، فإن قلتَ: فكيفَ رجعَ رسولُ الله صلعم عن الأمرِ الجَّازمِ إلى الترديد بينِ [الكسر] والغُسْلُ المفهومُ من قولهِ في روايةٍ أُخرى: «فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَوْ نُهْرِيْقُهَا وَنَغْسِلُهَا؟ قَالَ: أَوْ ذَاكَ».
          وقال ابنُ الجوزيِّ: أرادَ التغليظَ عليهم في طبخِهم ما نُهِيَ عن أكلِهِ، فلمَّا رأى إذعَانَهم اقتصرَ على غسلِ الأواني.
          وفيهِ ردٌّ على من زعمَ أن دِنَانَ الخمرِ لا سبيلَ إلى تطهيرِهَا، فإن الذي دخلَ القدورَ من الماءِ الذي طبختْ به الخمرُ، يُطَهِّرُهُ الغسلُ، وقد أذنَ صلعم في غسلِهَا، فدلَّ على إمكانِ تطهيرِهَا، وقد وردتْ الإشارةُ إلى ذَبْحِهِمْ الحُمُرَ الأهليةِ في بعض الأحاديثِ، ففي حديثِ عبدِ اللهِ / بنِ أبي أَوْفَى ☺ قَالَ: أَصَابَتْنَا مَجَاعَةٌ(2) لَيَالِيَ خَيْبَرَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ وَقَعْنَا في الحُمُرِ الإِنْسِيَّةِ، وَانْتَحَرْنَاهَا. الحديثُ.
          وفي حديثِ أنسٍ ☺ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ خَيْبَرَ جَاءَ جَاءٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أُفْنِيَتِ الْحُمُرُ، فَأَمَرَ أَبَا طَلْحَةَ، فَنَادَى. الحديثُ.
          وفي حديثِ أبي ثَعْلَبَةَ الخُشْنِيِّ ☺ قَالَ: غَزَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلعم خَيْبَرَ، وَالنَّاسُ جِيَاعٌ، فَأَصَبْنَا بِهَا حُمُرًا إِنْسِيَّةً، فَذَبَحْنَاهَا، فَأُخْبِرَ النَّبِيُّ صلعم، فَأَمَرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ، فَنَادَى. الحديثُ.
          وروى محمدُ بن عمرَ ☼ عن شيوخهِ ⌠ أن عِدَّةَ الحُمُرِ التي ذَبحوها كانت عشرينَ أو ثلاثينَ. كذا رواهُ [أبو] علي [ابن] السكنِ(3) ، ☼ والله أعلم.


[1] في المخطوط: «المدني»، وهو وهم، بدليل ما في فتح الباري.
[2] في المخطوط: «جماعة»، وهو خطأ.
[3] هكذا في المخطوط، والمشهور في اسمه: أبو علي بن السكن، واسمه: سعيد بن عثمان، وهذا القولُ منسوب في كتب الشروح للواقدي، وهو شيخ أبي علي بن السكن، والله أعلم».