كفاية القاري في شرح ثلاثيات البخاري

حديث سلمة: أسمعنا يا عامر من هنيهاتك

          الحديُث التاسعُ عشرَ:
          من ثلاثياتِ الإمام البخاري: هو ما أخرجهُ في كتابِ الدياتِ، في ((بابِ قتلَ نفسَهُ خَطًا)) فقال: (حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيْمَ) الحنظلي البلخي الحافظ (قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ) بضمِّ العين، مولى سلمة بن الأكوع (عَنْ) مولاه (سَلَمَةَ) بن الأكوعِ، أبو سلمةَ، واسم الأكوعِ سنانُ بن عبدِ اللهِ ☺ (قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلعم إِلَى خَيْبَرَ) هي قريةٌ كانت لليهودِ على أربعِ مراحلَ من المدينةِ (فَقَالَ رَجُلٌ مِنْهُمْ:) هو أُسَيْدُ بن حُضَيْرٍ.
          قال في ((الفتحِ)): وعندَ ابن إسحاقَ من حديثِ نصرِ بن زهرٍ الأسلميِّ.
          (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُوْلَ اللهِ صلعم يَقُوْلُ:) في مسيرِهِ إلى خيبرَ، لعامرِ بن الأكوعِ: «انْزِلْ يَا ابْنَ الأَكْوَعِ فَاحْدُ لَنَا مِنْ هُنَيْهَاتِكَ». ففي هذا أنَّ النبيَّ صلعم هو الذي أمرهُ بذلكَ (أَسْمِعْنَا) بكسرِ الميمِ (يَا عَامِرُ) هو ابنُ سنانٍ عمُّ سلمةَ بن الأكوعِ (مِنْ هُنَيْهَاتِكَ) بضمِّ الهاءِ وفتحِ النونِ وسكونِ التَّحتيةِ بعدها هاءٌ فألفٌ ففوقية فكافٌ، أي أراجيزكَ، ولابن عساكر وأبي ذر عن الكُشْمَهِيْنِيِّ: «من هُنَيَّاتِكَ» بتحتية مشددة بدل الهاء الثانية، تصغير هناتكَ، واحده هناه، وتُقلبُ الياءٌ هاءً كما في الرواية الأولى.
          (فَحَدَى عَامِرٌ بِهِمْ) أي ساقَهُمْ منشدًا للأراجيزِ، يقولُ:
اللَّهُمَّ لَوْلاَ أَنْتَ مَا اهْتَدَيْنَا                     وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنَا
فَاغْفِرْ فِدَاءٌ لَكَ مَا اتَقَيْنَا                      وَأَلْقِيَنْ سَكِيْنَةً عَلَيْنَا /
          قالَ في ((الفتحِ)): قوله: ((اللهمَّ لولا أنتَ ما اهتديْنَا)) في هذا القَسَمِ بِزُخَافُ الخَزْمِ بالمعجمتينِ، وهو زيادةُ سببٍ في أولهِ، وأكثرُ هذا الرجزِ قد تقدَّمَ في ((الجهادِ)) من حديثِ البراءِ بن عازبٍ وأنه من شعرِ عبدِ اللهِ بن رَوَاحَةَ، فيحتملُ أن يكونَ هو وعامرٌ توارَدَا على ما توارَدَا منهُ بدليلِ ما وقعَ لكلٍّ منهما بما ليس عند الآخرِ، أو استعانَ عامرٌ ببعضِ ما سبقهُ إليه [ابن] رواحةَ.
          قولك: فاغفرْ فداءً لكَ ما اتقينا.
          أمَّا قولهُ: ((فِدَاءً)) فهو بكسرِ الفاءِ وبالمدِّ، وحكى ابنُ التِّينِ فتحَ أولِهِ مع القصرِ، وزعمَ أنهُ هنا بالكسرِ لضرورةِ الوزنِ ولم يُصِبْ في ذلكَ فإنه لا يُنوَّنُ إلا بالمدِّ، وقد اسْتُشْكِلَ هذا الكلامُ لأنَّهُ لا يُقالُ في حقِّ اللهِ إذْ معنى ((فداءً لكَ)) نفديكَ بأنفُسِنَا، وحُذِفَ مُتَعَلِّقُ الفداءِ للشهرةِ، وإنما يُتَصَوَّرُ الفداءُ لمن يجوزُ عليهِ الفَنَاءُ، وأُجِيْبَ عن ذلكَ بأنها كلمةٌ لا يُرادُ ظاهرُهَا بل المرادُ بها المحبةُ والتعظيمُ مع القطعِ عن ظاهرِ اللفظِ، وقيل المرادُ بهذا الشِّعْرِ النبيَّ صلعم، والمعنى لا تؤاخِذنا بتقصيرِنَا في حقِّكَ ونصركَ، وعلى هذا فقولهُ: اللهُمَّ لم يَقصدْ بها الدعاءُ وإنما افَتَتَحَ بها الكلامَ، والمخاطَبُ بقولِ: ((لولا أنتَ)) النبيُّ صلعم إلى آخرهِ، ويُعَكِّرُ عليهِ قولهُ بعد ذلكَ:
فأنزلنْ سكينةً عليْنا                    وثبتِ الأقدامَ إن لاقَينا.
          فإنه دعاءٌ للهِ تعالى، ويُحْتَمَلُ أن يكونَ المعنى فاسألْ ربكَ أن ينِّزلَ ويُثبِّتَ واللهُ أعلمُ.
          وأما قولُهُ: ((ما اتَّقَيْنَا))(1) ، فبتشديدِ المثناةِ بعدهَا قافٌ للأكثرِ، ومعناهُ ما تركنَا من الأوامرِ، وما ظرفيةٌ وللأصيليِّ والنسفيِّ بهمزةِ قطعٍ ثم موحدةٍ ساكنةٍ، أي ما خلَفْنَا وراءَنَا مما اكتسبْنَاهُ من الآثامِ، وما أبقيناهُ وراءنَا من الذنوبِ [فلم نتبْ منهُ]، / وللقابسيِّ: «ما لَقِيْنَا»، بلامٍ وكسرِ القافِ، والمعنى ما وجدنَا من المنَاهِيَ، ورفعَ في روايةِ قُتَيْبَةَ عن حاتمِ بنِ إسماعيلَ: ما اقْتَفَيْنَا بقافٍ ساكنةٍ ومثناة مفتوحة ثم تحتانية ساكنةٍ، أي تَبِعْنَا من الخطايَا من قفوتَ الأثرَ إذا تَبِعْتَهُ، وكذا لمسلمٍ عن قتيبةَ وهي أشهرُ الرواياتِ في هذا الرَّجَزِ.
          قوله: ((وَأَلْقِيَنْ سَكِيْنَةً علينا))، في روايةِ النَّسفيِّ: «وأَلْقِ السكينةَ علينَا»، بحذفِ النونِ وزيادةِ الألف ولامٌ في السَّكينةِ بغيرِ تنوينٍ وهو موزونٌ، وإنما الجزءُ الأخير مخبون.
          قوله: ((إنَّا إذا صيحَ بِنَا أَتَيْنَا)) بمثناةٍ، أي: جِئْنَا إذا دُعينا إلى القتالِ أو إلى الحقِّ، ورُوِيَ بالموحَّدةِ كذا رأيتُ في نسخةِ النَّسفِيِّ، فإن كانت ثابتةً فالمعنى إذا دُعينا إلى غيرِ الحقِّ أَبينا امتنعنا.
          قوله: ((وبِالصِّيَاحِ عَوَّلُوْا عَلَيْنَا)) أي: قصدونا بالدعاءِ بالصوتِ العالي استغاثوا علينا، تقولُ: عَوَّلْتُ على فلانٍ وعَوَّلْتُ بفلانٍ بمعنى استغثتُ بهِ.
          وقال الخطابيُّ: المعنى أجلبوا علينا بالأصوتِ، وهو من العويلِ، وتعقَّبَهُ ابنُ المُنَيِّرِ بأنَّ عَوَّلُوْا بالتَّثقيلِ من التَّعويلِ، ولو كان من العويلِ لكان أَعْوَلوا، ووقعَ في روايةِ إياسِ بن سلمةَ عن أبيهِ عند أحمدَ في هذا الرَّجزِ من الزيادةِ:
إنَّ الذينَ قد بَغوا علينا
إذا أرادوا فتنةً أَبَيْنَا
ونحنُ عن فضلِكَ ما استغنينا
          وهذا القسمُ الأخيرُ عند مسلمٍ أيضًا. انتهى.
          (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: مَنْ السَّائِقُ؟ قَالُوْا: هُوَ عَامِرٌ، فَقَالَ صلعم: ☼، فَقَالُوْا: يَا رَسُوْلَ اللهِ هَلَّا أَمْتَعْتَنَا) بهمزةٍ مفتوحةٍ / وسكونِ الميمِ، بحياةِ عامرٍ قبلَ إسراعِ الموتِ له؛ لأنهُ صلعم ما قالَ مثل ذلك لأحدٍ ولا استغفرَ لإنسانٍ قطُّ يخصُّهُ بالإستغفارِ عند القتالِ إلا استشهدَ، وفي ((غزوةِ خيبرَ)) [خ¦4196] قال رجلٌ من القومِ: وجبتْ يا نبيَ اللهِ لو أَمتعتَنا بهِ، ووقعَ في مسلم أنَّ هذا الرجل هو عمرُ بن الخطابِ.
          (فَأُصِيْبَ عَامِرٌ صَبِيْحَةَ لَيْلَتِهِ) تلكَ، وذلكَ أن سيفهُ كان قصيرًا فتناولَ به يهوديًا ليضربَهُ به، فرجعَ ذُبَابُهُ فأصابَ ركبتَهُ.
          (فَقَالَ القَوْمُ) ومنهم أُسَيْدُ بِنُ حُضَيْرٍ، كما عندَ المؤلفِ في ((الأدبِ)) [خ¦6148].
          (حَبِطَ عَمَلُهُ) بكسر الموحدة، أي بطلَ لأنه قتلَ نفسَهُ.
          (فَلَمَّا رَجَعْتُ وَهُمْ يَتَحَدَّثُونَ أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ) قال سلمةُ (فَجِئْنَا إِلَى النَّبِيِّ صلعم، فَقُلْتُ: يَا نَبِيَ اللهِ) ولأبي ذرٍّ: «يا رسول الله» (فَدَاكَ) بفتح الفاءِ (أَبِي وَأُمِّي، زَعَمُوْا أَنَّ عَامِرًا حَبِطَ عَمَلُهُ، فَقَالَ صلعم: كَذَبَ مَنْ قَالَهَا) أي كلمةُ حَبِطَ عملُهُ (إِنَّ لَهُ لَأَجْرَيْنِ) أجرُ الجهدِ للطَّاعةِ، وأجرُ الجهادِ في سبيلِ الله تعالى، واللامُ في ((لأجرين)) للتأكيدِ (اثْنَيْنِ) تأكيدٌ لأجرينِ (إِنَّهُ لَجَاهِدٌ) مرتكبٌ للمشقَّةِ في الخيرِ (مُجَاهِد) في سبيلِ اللهِ ╡ (وَأَيُّ قَتْلٍ) بفتحِ القافِ وسكونِ الفوقيةِ (يَزِيدُهُ عَلَيْهِ) أي يزيدُ الأجرَ على هذه، ولأبي ذرٍّ عن الكُشْمَهينِيِّ: «وأي قِتْيَلٍ؟» بكسرِ الفوقيةِ وزيادةِ تحتيةٍ ساكنةٍ يريدُ عليهِ بإسقاطِ الهاءِ من يريده، وللأصيليِّ: وأي قتيلٍ يريدهُ.
          وهذا الحديثُ حُجَّةٌ للجمهورِ أن من قتلَ نفسَهُ لا يجبُ فيه شيء إذ لم ينقلْ أنه صلعم / أوجبَ في هذه القضيةِ شيئًا.
          قال القسطلانيُّ: وهذا الحديثُ هو التاسعُ عشرَ من ثلاثياتِ الإمامِ البخاريِّ، وسبقَ في المغازِي [خ¦4196] والأدبِ [خ¦6148] والمظالمِ [خ¦2477] والذَّبائحِ [خ¦5497] والدَّعواتِ [خ¦6331]، وأخرجهُ مسلمٌ وابنُ ماجه.


[1] في المخطوط: « أبقيتنا ».