كفاية القاري في شرح ثلاثيات البخاري

حديث سلمة: يا ابن الأكوع، ملكت فأسجح.

          الحديثُ الثانِي عشرَ:
          من ثلاثياتِ الإمامِ البخاريِّ، هو ما أخرجهُ في كتابِ الجهادِ أيضًا، في ((بابِ من رَأى العدوَّ فنادى بأعلى صوتِهِ: يَا صَبَاحَاهُ)) (حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) قد تقدم بيان رجالِ هذا الإسناد غير مَرَّةٍ.
          قال: (أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ، عَنْ مَوْلَى سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ أَنَّهُ أَخْبَرَهُ، قَالَ: خَرَجْتُ / منَ المَدِيْنَةِ) حالَ كَوني (ذاهبًا) زادَ في ((الفتحِ)) في روايةٍ أخرى: «خَرَجْنَا قَبْلَ أَنْ يُؤَذَّنَ بِالأُولَى» يعني صلاةَ الصبحِ، ويدل عليه قوله في رواية مسلم: أنهُ تبعهم من الغلسِ إلى غروبِ الشمسِ، (نَحْوَ الغَابَةِ) بالغينِ المعجمةِ وبعد الألفِ موحدة، وهي على بريدٍ من المدينةِ في طريقِ الشَّامِ.
          قال ابنُ الأثيرِ في ((النهاية)): هي موضعٌ قريبٌ من المدينةِ من عواليها، وبها أموالٌ لأهلها. انتهى.
          قال السيدُ السمهوديُّ في تاريخه: قال في ((المشارقِ)) بالموحدة: مال من أمول عوالي المدينةِ. ثم قال: وقال الحافظ ابن حجر: تبعًا له: الغابةُ من عوالي المدينةِ، وزادَ أنَّها في جهةِ الشامِ. انتهى.
          قال السيدُ: والغابةُ إنما هي في أسفلِ سافلةِ المدينةِ لا يختلف فيها اثنان، ولهذا قال: إنما هي في جهةِ الشامِ فكيفَ تكون من عوالي المدينةِ وهي مغيضُ مياهِ أوديتها، وهي معروفةٌ اليومَ في سافلةِ المدينةِ، وكان بها أملاكٌ لأهلها استولى عليها الخرابُ، وكان الزبيرُ بن العوامِ ☺ قد اشتراها بمائةٍ وسبعينَ ألفًا، وبيعت في تركته بألفِ ألفٍ وستمائة ألفٍ، وعن محمدِ بن ضحَّاكٍ أنَّ العباسَ ☺ كَانَ يَقِفُ عَلَى سَلْعٍ فَيُنَادِي غِلْمَانَهُ، وَهُمْ بِالغَابَةِ فَيُسْمِعُهُمْ. وذلك من آخرِ الليلِ، وبينهما ثمانيةُ أميالٍ.
          قلتُ: يُحملُ البريدُ على أقصَاها وما بعده على أثنائها، وأما أدنَاها على ما يُفْهَمُ من كلامِهِ أنه الحَفْياء بالفتح ثم السكونِ ثم مثناةٍ تحتيَّةٍ وألف ممدودةٍ: موضعٌ قربَ المدينةِ.
          (حَتَّى إِذَا كُنْتُ بِثَنِيَّةِ الغَابَةِ) هي كالعقبةِ للجبلِ (لَقِيَنِي غُلاَمٌ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ) قال في ((الفتحِ)): لم أقفْ على اسمِهِ، ويحتملُ أن يكون رباحًا غلامَ رسول الله صلعم / كما في روايةِ مسلمٍ: «قَدِمْنَا الْحُدَيْبِيَةَ ثُمَّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ فَبَعَثَ بِظَهْرِهِ رَبَاحًا مع غُلَامِهِ» وكأنه كان مِلْكَ أحدِهِما وكان يخدمُ الآخرَ، فنُسبَ تارةً إلى هذا وتارةً إلى هذا، (قُلْتُ لَهُ: وَيْحَكَ) وهي كلمة ترحُّمٍ وتوجُّعٍ (مَا بِكَ قَالَ: أُخِذَتْ) بضم الهمزة آخره مثناة فوقية ساكنة، مبنيًا للمفعول، ولأبي ذرٍّ عن الحمويي والمستمليِّ: «أُخِذَ»، بإسقاطِ الفوقيَّةِ (لِقَاحُ النَّبِيِّ صلعم) بكسرِ اللامِ بعدها قافٌ وبعد الألفِ حاءٌ مهملةٌ، مرفوعٌ نائبٌ عن الفاعلِ، واحدها لقوحةٌ، وهي الحلوبُ، وكانت عشرين لقحةً ترعى الغابةَ (قُلْتُ: مَنْ أَخَذَهَا؟ قَالَ: غَطَفَانُ) بفتحِ الغينِ المُعجمةِ والطاء المهملة بعدها فاءٌ (وَفَزَارَة) بفتحِ الفاءِ والزاي: قبيلتانِ من العربِ، وقال في ((الفتحِ)): هو من الخاصِّ بعد العامِّ لأن فزارةَ من غطفانَ (فَصَرَخْتُ ثَلاَثَ صَرَخَاتٍ أَسْمَعْتُ مَا بَيْنَ لاَبَتَيْهَا) أي: لابتي المدينةِ، واللابةُ: الحرَّةُ (يَا صَبَاحَاهُ يَا صَبَاحَاهُ) مرتين، بفتحِ الصادِ والموحدةِ، بعد الألفِ حاءٌ مهملةٌ فألفٌ فهاءٌ مضمومَةٌ، وفي الفرعِ سكونُها، وكذا في أصلِهِ منادى مستغاثٌ، والألفُ للإستغاثةِ والهاء للسكتِ، وكأنه نادى الناسَ استغاثةً بهم في وقتِ الصباحِ.
          وقال ابنُ المُنَيِّرِ: الهاءُ للندبَةِ وربما سقطت في الوصلِ وقد ثبتتْ في الروايةِ فتُوقِّفَ عليها بالسكون، وكانت عادتهم يُغِيْرُوْنَ في وقتِ الصباحِ، فكأنه قال تأهَّبوا لما دَهَمَكُمْ صباحًا.
          (ثُمَّ انْدَفَعْتُ) بسكون العين: أسرعتُ في السيرِ، وفي روايةٍ أخرى: على وجهي، أي لم ألتفتْ يمينًا ولا شمالًا، بل أسرعتُ / الجريَ، وكان شديدَ العَدْوِ (حَتَّى أَلْقَاهُمْ) وفي روايةٍ: «حَتَّى أَدْرَكْتُهُمْ»، (وَقَدْ أَخَذُوْهَا) يعني اللقاحُ (فَجَعَلْتُ) وفي روايةٍ: «فَأَقْبَلْتُ» (أَرْمِيهِمْ) بالنَّبلِ (وَأَقُولُ: أَنَا ابْنُ الأَكْوَعِ ... وَاليَوْمُ يَوْمُ الرُّضَّعِ) قالَ في ((الفتحِ)) في بيان الرُّضَّع: بضمِّ الرَّاءِ وتشديدِ المعجمةِ: جمعُ راضعٍ وهو اللئيمُ، فمعناهُ اليومُ يومُ اللئامِ ؛ أي اليومُ يومُ هلاكِ اللئامِ، والأصلُ فيه أن شخصًا كان شديدَ البخلِ فكانَ إذا أرادَ حَلْبَ ناقتهِ ارتضعَ من ثديِّها لئلا يحلبها فيسمع جيرانهُ أو من يمرُّ بهِ صوتُ الحَلْبِ فيطلبونَ منه اللبنَ، وقيل: بل صنعَ ذلكَ لئلا يتبدَّدَ من اللبنِ شيءٌ إذا حَلَبَ في الإناءِ أو يبقى في الإناءِ شيءٌ إذا شربهُ منه، فقالوا في المثل: أَلْأَم من راضع، وقيل: بل المعنى ارتضعَ اللؤمَ من بطن أمهِ، وقيل: كلُّ من كان يوصفُ باللؤم يُوصفُ بالمصِّ والرضاعِ، وقيل: هو الراعي الذي لا يصحبُ مِحْلبًا فإذا جاءهُ الضيفُ اعتذرَ بأن لا مِحْلبَ معه، وإذا أراد أن يشربَ ارتضعَ ثديها، قالَ أبو عمرٍو الشيبانيُّ: هو الذي يرضعُ الشاةَ و الناقةَ عند إرادةِ الحلبِ لشدَّةِ الشَرَهِ، وقيل: أصلهُ الشاةُ ترضعُ لبنَ شاتين من شدَّةِ الجوعِ، وقيل: معناه اللؤم، يُعْرَفُ من ارتضعَ كريمةً فأنجبتهُ أو لئيمةً فهجَّنَتْهُ، وقيل: معناه اليومَ يعرفُ من أرضعتهُ الحربُ من صغرِهِ وتدرَّبَ بها من غيره، وقال الداوديُّ: معناه هذا يومٌ شديدٌ عليكم تُفارقُ فيه المرضعةُ من أرضعتْهُ فلا تجد من تُرضعهُ، قال السُّهيليُّ: قوله: (( اليوم يوم الرُّضعِ)) يجوز الرفع فيهما ونصب الأول ورفع الثاني على جعل الأول ظرفًا، قال: وهو جائزٌ إذا كان الظرفُ / واسعًا ولم يضقْ على الثاني، قال: وقال أهل اللغةِ: يُقالُ في اللُّؤمِ رضَعَ يرضَعُ [بالفتح، يرضُع بالضم رضاعةً لا غير، ورضِعَ الصبي بالكسر ثدي أمهِ، يرضَعُ] بالفتحِ رضاعًا مثل سمعَ يسمعُ سماعًا، وعند مسلمٍ في هذا الموضعِ: فأقبلتُ أرميهِم بالنبلِ، وارتجزوا فيه، فألحق رجلًا منهم فأصكُّهُ سهمًا في رجله فخلصَ السهمُ إلى كعبِهِ فما زلتُ أرميهم وأعقرُ هم فإذا رجعَ إليَّ فارسٌ منهم أتيتُ شجرةً فجلستُ في أصلِها، ثم رميتُ فعقرتُ بهِ، فإذا تضايقَ الجبلُ فدخلوا في مضائقه علوتُ الجبلَ فرميتُ بالحجارةِ، وعند ابن إسحاق: وكان سلمةُ مثل الأسدِ فإذا حملتُ عليه الخيلَ فرَّ ثم عارضُهم فنَضَحَهَا عنه بالنَّبلِ.
          (فَاسْتَنْقَذْتُهَا) بالقافِ والذالِ المُعجمةِ، أي استخلصتُ اللقاحَ (مِنْهُمْ) أي من غطفانَ وفزارةَ، قال في ((الفتحِ)): في روايةٍ أخرى: «حتى استنقذتُ اللقاحَ منهم واستلبتُ منهم ثلاثينَ بردةً»، وفي روايةِ مسلمٍ: فما زلتُ كذلكَ حتى ما خلقَ اللهُ من ظهرِ رسول الله صلعم من بعيرٍ إلا خلفتهُ وراءَ ظهري، ثم اتَّبعتُهم أرميهم حتى ألقُوا أكثرَ من ثلاثينَ بردةً وثلاثينَ رُمحًا يتخففونَ بها.
          (قَبْلَ أَنْ يَشْرَبُوْا) أي الماءَ (فَأَقْبَلْتُ بِهَا) حالَ كوني (أَسُوقُهَا، فَلَقِيَنِي صلعم) وكان قد خرجَ ╕ إليهم غداةَ الأربعاءِ في الحديدِ مُقنعًا في خمسمائة، وقيل سبعمائةٍ، بعد أن جاءَ الصريخُ ونُودي: يا خيلَ اللهِ اركبي، وعقدَ للمقدادِ بن عمرو لواءً، وقال له: امضِ حتى تلحقكَ الخيولُ وأنا على إثركَ (فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله إِنَّ القَوْمَ) يعني غطفانُ وفزارةُ (عِطَاشٌ) بكسرِ العينِ المهملةِ، وأني أعجلْتُهُمْ (أَنْ يَشْرَبُوْا) مفعولٌ له، أي كراهةَ شربِهم (سِقْيَهُمْ) بكسرِ السينِ وسكونِ القافِ، أي حظَّهم / من الشرابِ (فَابْعَثْ فِي إِثْرِهِمْ) بكسرِ الهمزةِ وسكونِ المثلثةِ، وعند أبي سعدٍ: قالَ سلمةُ: فلو بعثني في مائةِ رجلٍ استنقذتُ ما بينهم من السرحِ، وأخذتُ بأعناق القومِ (فَقَالَ) ╕ (يَا بْنَ الأَكْوَعِ: مَلَكْتَ) أي قدرتَ عليهم واستعبدتَهم وهم في الأصلِ أحرارٌ (فَأَسْجِحْ) بهمزةِ قطعٍ وسينٍ مهملةٍ ساكنةٍ وبعد الجيمِ المكسورةِ حاءٌ مهملةٌ، أي: فارفقْ وسهِّلْ وأحسنْ العفوَ ولا تأخذهُ بالشدةِ، والسَّجَاحَةُ: السهولةُ (إِنَّ القَوْمَ) أي غطفانَ وفزارةَ (يُقْرَوْنَ) بضمِّ المثناةِ التحتيةِ وسكون القاف والواو وبينهما راءٌ مفتوحة آخره، أي يُضافونَ (فِي قَوْمِهِمْ) وعند الكشميهنيِّ: «مِنْ قَوْمِهِمْ»، ولمسلم: «إِنَّهُمْ الآنَ ليُقْرَوْنَ فِي أَرْضِ غَطَفَانَ» يعني أنهم وصلوا إلى غطفانَ، وهم يضيفونَهم ويساعدونَهم، فلا فائدةَ في البعثِ في الأثرِ لأنهم لحقوا بأصحابِهم.
          وزاد ابنُ سعدٍ: «فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ غَطَفَانَ فَقَالَ: مَرُّوا عَلَى فُلَانٍ الْغَطَفَانِيِّ، فَنَحَرَ لَهُمْ جَزُوْرًا، قَالَ: فَلَمَّا أَخَذُوا يَكْشِطُوْنَ جِلْدَهَا رَأَوْهُ غَبَرَةً فَتَرَكُوْهَا هَرَبًا» الحديثُ، وفيه معجزةٌ حيث أخبرَ بذلك ╕ فكان كما قال، وفي بعض الأصولِ من البخاري «يُقْرَوْنَ» بضمِّ الرَّاء مع أوَّله، أي أرفقَ بهم فإنهم يُضيفونَ الأضيافَ، فراعى صلعم ذلك رجاءَ توبتهم، ولأبي ذرٍّ عن الحمويي والمستمليِّ: «يَقِرُّوْنَ» بفتحِ أول وكسرِ القافِ وتشديد الراء.