كفاية القاري في شرح ثلاثيات البخاري

حديث سلمة: يا ابن الأكوع، ألا تبايع

          الحديثُ الحَادِي عشرَ:
          من ثلاثياتِ البخاريِّ، هو ما أخرجهُ في كتابِ الجهادِ، في ((بابِ البيعةِ في الحربِ))، فقالَ:
          (حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ) بن بشيرِ بن فرقدٍ الحنظليِّ التَّميميِّ، قال: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ) مولى سلمةَ بن الأكوعِ (عَنْ سَلَمَةَ الأَكْوَعِ) سنانَ بن عبدِ اللهِ (☺، قَالَ: بَايَعْتُ النَّبِيَّ صلعم) بيعةَ الرضوانِ بالحديبيةِ تحتَ الشجرةِ (ثُمَّ عَدَلْتُ إِلَى ظِلِّ الشَّجَرَةِ) المعهودةِ، ولأبي ذرٍّ: «ظلُّ شجرةٍ» (فَلَمَّا خَفَّ(1) النَّاسُ، قَالَ) ╕ (يَا ابْنَ الأَكْوَعِ أَلاَ تُبَايِعُ؟ قَالَ: قُلْتُ: / قَدْ بَايَعْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: وَ) بايعَ (أَيْضًا) مرةً أُخرى (فَبَايَعْتُهُ الثَّانيةَ) وإنما بايعهُ مرةً ثانيةً؛ لأنه كانَ شيخًا بذَّالًا لنفسهِ، فأكدَّ عليهِ العقدَ احتياطًا، حتى يكونَ بَذْلُهُ لنفسهِ عن رضىً متأكدٌ.
          وفيه دليلٌ على أن إعادةَ لفظِ النكاحِ وغيرِه ليسَ فسخًا للعقدِ الأولِ، خلافًا لبعضِ الشافعيةِ، قالهُ ابن المُنَيِّرِ.
          قالَ يزيدَ بن أبي عبيدٍ (فَقُلْتُ) أي لسلمةَ بن الأكوعِ (يَا أَبَا مُسْلِمٍ) وهي كنيةُ سلمةَ (عَلَى أَيِّ شَيْءٍ كُنْتُمْ تُبَايِعُونَ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ:) كنا نبايعُ [على الموت] أي: على أن لا نفرَّ ولو مُتنا.
          قال في ((الفتحِ)) في بيانِ سببِ تكرُّرِ المبايعةِ، قال المهلبُ فيما ذكرَ ابنُ بطَّالٍ أرادَ أن يؤكدَ بيعةَ سلمةَ، لعلمهِ بشجاعتهِ وعنايتِهِ في الإسلامِ، وشهرَته بالثباتِ، ولذلكَ أمرَهُ بتكريرِ المبايعةِ، فيكونُ له في ذلكَ فضيلةٌ.
          قلتُ: ويحتملُ أن يكونَ سلمةُ لما بادرَ إلى المبايعةِ، ثم قعدَ قريبًا، واستمرَّ الناسُ يبايعونَ إلى أن خفُّوْا، أرادَ النبيُّ صلعم أنه يبايعُ لتتوالى المبايعةُ معهُ، ولا يقعُ فيها تَخَلُّلٌ، لأن العادةَ في مبدأ كلِّ أمرٍ أن يكثرَ من يباشرَهُ فيتوَالى، فإذا تَنَاهى قد يقعُ بينَ من يجيءُ آخِرًا تَخَلُّلٌ، ولا يلزمُ من ذلكَ اختصاصُ سلمةَ بما ذكرَ، والواقعُ أنَّ [الذي] أشارَ إليهِ ابن [بطَّالٍ] من حالِ سلمةَ في الشجاعةِ وغيرِهَا لم يكنْ ظهرَ بعدُ، لأنَّهُ إنَّما وقعَ منهُ بعدَ ذلكَ في غزوةِ ذِي قردٍ، حيث استعاد السَّرْحُ الذي كان المشركونَ أغاروا عليهِ فاستلبَ ثيابَهم، وكان آخرُ أمرهِ أن أَسْهَمَ لَهُ صلعم الفارسَ والرَّاجلَ، فالأولى أن يُقَالَ تَفَرَّسَ النبيُّ صلعم ذلكَ فبايعهُ مرَّتينِ، / وأشارَ بذلكَ إلى أنه سيقومُ في الحربِ مقامَ رجلينِ وكان كذلكَ.
          فصلٌ: فيما يتعلقُ بقضيةِ الحُدَيْبِيَةِ على سبيلِ الاختصارِ:
          قالَ القسطلانيُّ: الحُدَيْبِيَةُ بضمِّ الحاءِ وفتحِ الدَّالِ المهملتينِ وسكونِ التحتيَّةِ وكسرِ الموحدةِ وتخفيفِ التحتيَّةِ.
          قال ابنُ الأثيرِ: وكثيرٌ من المحدثينِ يُشدِّدونَها.
          وقالَ أبو عبيدةَ البكريُّ: وأهلُ العراقِ يُثقِّلونَ، وأهلُ الحجازِ يُخفِّفونَ.
          وقال في ((الفتح)): وأنكرَ كثيرٌ من أهلِ اللغةِ التخفيفُ.
          وقرأتُ في ((القاموسِ)): والحديبيةُ كَدويهة، وقد تشدَّدَ، بئرٌ قربَ مكةَ حرسهَا اللهُ تعالى. انتهى.
          وقيل: شجرةٌ، وقال المحبُّ الطبريُّ: قريةٌ قريبةٌ من مكةَ أكثرُها في الحرمِ، وهي على تسعةِ أميالٍ من مكةَ. انتهى.
          وذكرَ في ((السيَرِ الكبيرِ)) للشيبانيِّ في بيانِ سببِ خروجِهِ صلى الله عليه وآله، أنه أُرِيَ ╕ أنه دخلَ مكةَ هو وأصحابهُ آمنينَ مُحَلِّقِيْنَ رؤوسَهم ومُقصِّرينَ، أو أنهُ دخلَ البيتَ وأخذَ مفتاحَهُ.
          وفي ((المواهبِ)): خرجَ صلى اللهُ عليه وآله، يعني إلى الحديبيةِ يومَ الإثنينِ، هلالَ ذي القعدةَ سنةَ ستٍّ من الهجرةِ، وفي البخاريِّ [خ¦4157] عن المِسورِ بن مَخْرَمَةَ ومروانَ بن الحكمِ، قالا: خرجَ رسولُ اللهِ صلى الله وسلم عامَ الحديبيةِ في بضعِ عشرَ مائةٍ من أصحابهِ، فلما كان بذي الحُليفةِ قلَّدَ الهديَ، وأشعرَ وأحرمَ منها، وفي روايةٍ: أحرمَ منها بعمرةٍ، فذكرَ القصةَ بطولِهَا، إلى أن قال: حتى إذا كانَ بالثنيةِ التي يهبطُ عليهم مِنها بركَتْ راحلتُهُ، فقالَ الناسُ: حلْ حلْ، فألحَّت، يعني تمادَتْ على عدمِ القيامِ، فقالوا: خلأتِ القَصوى، / خلأتِ القَصوى، فقالَ النبيُّ صلعم: ما خلأتِ القَصوى، وما ذاكَ [لها] بخلق، ولكن حَبسها حابسُ الفيلِ، قال: ثم زجرَهَا فوثبَتْ، قال: فعدلَ عنهم حتى نزلَ بأقصى الحديبيةِ على ثَمَدٍ قليلِ الماءِ _يعني حفرةٌ فيها ماءٌ قليلٌ_ يتبرضُهُ الناسُ تبرُّضًا _ أي: يأخذونَهُ قليلًا قليلًا_ فلم يُلَبِّثْهُ الناسُ حتى نزحوْهُ، وشُكِيَ إلى رسولِ الله صلعم العطشَ، فانتزعَ سهمًا من كِنَانَتِهِ، ثم أمرهم أن يجعلوهُ فيه، فواللهِ ما زالَ يجيشُ بالرِّيِّ، حتى صَدَروا عنهُ.
          وفي روايةٍ عن المِسْوَرِ: فإنهم ليغترفونَ بآنيتِهِمْ جُلوسًا على شفيرِ البئرِ، وعن ناجيةَ بن الأعجمِ، قال: دَعَانِي رسولُ اللهِ صلعم شَكى إليَّ قِلَّةِ الماءِ، فأخرجَ سَهمًا من كِنَانَتِهِ، ودفعهُ إليَّ، ودعا بدلوٍ من ماءِ البيرِ فجئتهُ به، فتوضأ فتمضمضَ فاهُ، ثم مجَّ في الدَّلوِ والناسُ في حرٍّ شديدٍ، وإنما هي بئرٌ واحدٌ قد سبق المشركونَ إلى بلدٍ، فغلبوا على مياهِهِ.
          فقالَ: أنزلْ الدلو فصبها في البئرِ، وأثرنَاها بالسهمٍ ففعلَتْ، فوالذي بعثهُ بالحقِّ ما كِدْتُ أخرجُ حتى يعمرني، وفازتْ كما يفوزُ القِدْرُ حتى طَمَّتْ، واستوتْ بشفيرِهَا يغترفونَ من جَانبها، حتى نَهلوا من آخرِهِمْ.
          وأخرجَ البيهقيُّ عن عروةَ قالَ: لما نزلَ صلعم الحديبيةَ فزعَتْ قريشٌ لنزولهِ عليهم، وأحبُّ رسولُ اللهِ صلعم أن يبعثَ إليهم رجلًا من الصحابةِ، فدعا عمرُ بن الخطَّابِ ليبعثَهُ إليهم، فقالَ: يا رسولَ اللهِ إني لا آمَنُهم وليسَ بمكةَ أحدٌ من بَني كعبٍ يغضبُ لي، إن أوذيتُ، فأرسلَ عثمانُ بن عفانَ فإن عشيرته بِها، وإنه يبلِّغُ لكَ ما أردتُ، فدعا رسولُ الله صلعم عثمانَ، وأرسلهُ إلى قريشٍ، وقالَ: أخبرَهُمْ أنَّا لم آتِ القتالَ، وإنما جِئنا عُمَّارًا، / وادعُهم إلى الإسلامِ وأمرهُ أن يأتي رجالًا بمكَّةَ مؤمنينَ ونساءً [مؤمنات]، فيدخلُ عليهم ويبشرُهم بالفتحِ، ويخبرُهم أن اللهَ وشيكٌ أن يظهرَ دينَهُ بمكةَ حتى لا يُسْتَخفى فيها بالإيمانِ، فانطلقَ عثمانُ إلى قريشٍ فأخبرهُمْ فارتهنَهُ المشركونَ، ودعا رسولُ اللهِ إلى البيعةِ، ونادى مُنادي رسولِ اللهِ صلعم ألا إن روحَ القدسَ قد نزلَ على رسولِ الله صلعم، فأمرهُ بالبيعةِ فاخرجُوا على اسمِ اللهِ فبايعوا، فبادرَ المسلمونَ إلى رسولِ اللهِ صلعم، وهو تحتَ الشجرةِ، فبايعوا على أن لا يَفِرُّوْا أبدًا فرهبهم اللهُ، فأرسلوا من كانوا ارتَهنوا من المسلمينَ، ودعوا إلى الموادعةِ والصُّلْحِ.
          في ((المواهبِ)): بعثَ النبيُّ صلعم بالكتابِ يعني كتابَ الصلحِ، الذي صالحهُ به سُهَيْلُ بن عمرٍو إليهم مع عثمانَ بن عفانَ، وأمسكَ سُهيلُ بن عمرٍو عندَهُ فأمسكَ المشركونَ عثمانَ، فغضبَ المسلمونَ، وقالَ مُغلطايُ: فأجلسته قريشٌ عندَها، فبلغَ النبيُّ صلعم أن عثمانَ قد قُتِلَ، فدعا للناسِ إلى بيعةِ الرضوانِ تحتَ الشَّجرةِ على الموتِ، وقيلَ: [على] أن لا يفرُّوا. انتهى.
          ووضعَ النبيُّ صلعم شمالَهُ في يمينهِ، وقال هذهِ عن عثمانَ، وفي البخاريِّ: فقالَ صلعم بيدِهِ اليُمنى، هذه بيعةُ عثمانَ، فضربَ فيها على يدِهِ اليُسْرَى... الحديث.


[1] في المخطوط: « جف ».