كفاية القاري في شرح ثلاثيات البخاري

حديث أنس: يا أنس كتاب الله القصاص

          الحَدِيْثُ العَاشِرُ:
          من ثلاثياتِ البخاريِّ، هو ما أخرجهُ في كتابِ الصُّلحِ في (( [باب: الصلح في] الدِّيَةِ)): فَقَالَ: (حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ) بن المُثَنَّى بن عبدِ اللهِ بن أنسِ بن مالكٍ (الأَنْصَارِيِّ) البصريِّ، قاضيها، سمعَ أباهُ وسليمانَ التَّيْمِيَّ وحُميدَ الطَّويلَ وحبيبَ بن الشهيدِ ومالكَ بن دينارٍ.
          وروى عنهُ أبو الوليدِ الطَّيَالِسِيُّ وقُتيبةُ بن سعيدٍ وأحمدُ بن حَنْبَلٍ ومحمدُ بن سعيدٍ ومحمدُ بن إسماعيلَ البخاريُّ وأبو حاتِمٍ الرَّازِيُّ، وغيرُهُم من الأئمةِ الأعلامِ، وَلِيَ القضاءَ بالبصرةِ أيامَ الرَّشيدِ بعد معاذِ بن معاذٍ، وقدمَ بغداد فَوَلِيَ القضاءَ وحدَّثَ بها، ثم رجعَ إلى البصرةِ.
          قال أبو حاتمٍ: لم أرَ من الأئمةِ إلا ثلاثةً: أحمدَ بن حنبلٍ وسليمانَ بن داودَ الهاشميَّ ومحمدَ بن عبدِ اللهِ الأنصاريَّ.
          وقال زكريَّا بن يحيى الساجيُّ ☼ عن محمدِ بن عبدِ اللهِ الأنصاريِّ: رجلٌ جليلٌ عالمٌ، لم يكنْ عندَهُم من فرسانِ الحديثِ مثل يحيى القطَّانِ ونظرائِهِ، غلبَ عليهِ الرأيُ.
          وعن أحمدَ بن كاملٍ القَاضي قال: ماتَ محمدُ بن عبدِ اللهِ الأنصاريُّ _فيما ذكرَ إسماعيلُ / بنُ إسحاقَ_ سنةَ خمسةَ عشرةَ ومائتينِ.
          قال: وكان مولدُهُ في السنةِ التي وُلِدَ فيها عبدُ اللهِ بن المباركِ، وهي سنةُ ثمانِ عشرةَ ومائةٍ، ولي القضاءَ ببغدادَ، وكانَ من أصحابِ زُفَرَ بن الهُذَيْلِ وأبي يوسفَ.
          (قَالَ: حَدَّثَنِي) بالإفرادِ (حُمَيْدٌ) بضمِّ الحاءِ وسكونِ الياءِ، الطويل، هو أبو عُبيدةَ(1) حميدِ بن أبي حميدٍ، مختلفٌ فيهِ، فقيلَ: عبدُ الرَّحمنِ، وقيلَ: طَرْخَانُ، وقيلَ: مهرانُ، مولى طلحةَ الطَّلحاتِ الخزاعيِّ البصريِّ.
          يُقَالُ: إنما قيلَ له الطويلُ لقصرِهِ، قالَ الأصمعيُ: رأيتُ حميدًا ولم يكنْ طويلًا، ولكن طويلُ اليدينِ، تابعيٌّ سمع(2) أنسَ بن مالكٍ، وُلِدَ سنةَ ثمانٍ وستينَ، وماتَ سنةَ ثمانٍ وأربعينَ ومائةٍ، وهو قائمٌ يُصلي، وله خمسٌ وسبعونَ سنةً، وكان كثيرَ الحديثِ واسعَ الرِّوايةِ. روى عنهُ حمادُ بن سلمةَ وابنُ المباركِ الأنصاريُّ.
          (أَنَّ أَنَسًا) هو ابن مالكِ بن النَّضرِ، أبو حمزةَ الأنصاريُّ الخَزرجيُّ، خادمُ رسولِ الله صلعم وأحدُ المكثرينِ من الروايةِ عنهُ.
          قالَ الكرمانيُّ: رُوِيَ له ألفَا حديثٍ ومائتانِ وستة وثلاثونَ حديثًا، ذكرَ البخاريُّ منها مائتينِ وواحدٍ وخمسينَ. انتهى.
          وقد صحَّ عنهُ أنه قالَ: قَدِمَ النبيُّ صلعم المدينةَ وأنا ابنُ عشرِ سنينَ، وتُوُفِّيَ وأنا ابنُ عشرينَ سنةً، وأن أمَّهُ أمُّ سُليمٍ أتتْ بهِ النبيَّ صلعم لما قدمَ، فقالت لهُ: خذْ أنسًا غلامًا يخدمُكَ، فَقَبِلَهُ النبيُّ صلعم وكنَّاهُ أبا حمزةَ ببقلةٍ كان يَجْتَنِيْهَا.
          فقد رُوِيَ عنهُ أنه قالَ: كَنَّانِي رسولُ اللهِ صلعم بِبَقْلَةٍ كنتُ أَجتنيها.
          قالَ في ((النهايةِ)): قالَ الأزهريُّ: البقلةُ التي جَنَاها أنسٌ كان في طَعمها لذعٌ، فسُميتْ حمزةُ بفعلِهَا، يُقالُ لها رُمَّانة [حامزة]، أي فيها حموضةٌ. انتهى.
          ومازحَهُ النبيُّ صلعم / فقالَ: «يا ذا الأذنينِ».
          وقالَ محمدُ بن عبدِ الله الأنصاريُّ: أخبرني أَبي عن مولى لأنسٍ(3) أنه قال لأنسٍ: أَشَهِدْتَ بدرًا؟ قال: وأين أغيبُ عن بدرٍ لا أمَّ لك؟.
          قال في ((الإصابةِ)): قلتُ: وإن لم يذكروهُ في البدرييِّنَ لأنه لم يكنْ في سنِّ من يقاتلُ(4) .
          وعن أَنَسٍ ☺ قالَ: قالتْ أمُّ سُلَيْمٍ: يَا رَسُوْلُ ادعِ اللهَ لأَنَسٍ، فقالَ: «اللهُمَّ أَكْثِرْ مالَهُ وولدَهُ وَبَارِكْ لهُ فِيْهِ»، قالَ أَنَسٌ: فلقدْ رُزِقْتُ مِنْ صُلْبِي سِوَى وَلَدِ وَلَدِي مائةً وخَمْسَةً وَعِشْرِيْنَ، وإنَّ أَرْضِي لتُثْمِرُ في السَّنَةِ مَرَّتَيْنِ.
          وعنهُ ☺ جاءتْ بِي أُمُّ سُلَيْمٍ إلى النبيِّ صلعم، وأنا غلامٌ، فَقُلْتُ يَا رَسُوْلَ اللهِ، أَنَسٌ ادْعُ اللهَ لهُ، فَقَالَ النبيُّ صلعم: «اللَّهُمَّ أَكْثِرْ مَالَهُ وَوَلَدَهُ وَأَدْخِلْهُ الجَّنَّةَ».
          وعن ثَابِتٍ قال: كُنْتُ مَعَ أَنَسٍ فَجَاءَ قَهْرَمَانَه، فَقَالَ: يَا أَبَا حَمْزَةَ عَطِشَتْ أَرْضُنَا، قَالَ: فَقَامَ أَنَسٌ فَتَوَضَّأَ وَخَرَجَ إِلَى الْبَرِيَّةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعَا، فَرَأَيْتُ السَّحَابَ يَلْتَئِمُ، ثُمَّ قَالَ: مَطَرَتْ حَتَّى مَلَأَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَلَمَّا سَكَنَ الْمَطَرُ بَعَثَ أَنَسٌ بَعْضَ أَهْلِهِ فَقَالَ: انْظُرْ أَيْنَ بَلَغَتِ السَّمَاءُ؟ فَنَظَرَ فَلَمْ تَعْدُ أَرْضُهُ إِلَّا يَسِيْرًا، وذلكَ في الصَّيفِ.
          قال في ((أُسْدِ الغابَةِ)): اخْتُلِفَ في وقتِ وفاتِهِ، ومبلغِ عمرِهِ، فقيلَ: تُوفِّيَ سنةَ إِحدى وتسعينَ، وقيل: سنةَ اثنتينِ وتسعينَ، وقيلَ: سنةَ ثلاثٍ وتسعينَ، وقيلَ: سنةَ تسعينَ.
          قيلَ: كانَ عمرُهُ مائةَ سنةٍ وثلاثِ سنينَ، وقيلَ: مائةُ سنةٍ وعشرُ سنينَ، وقيل: مائةُ سنةٍ وسبعُ سنينَ، وقيل: تسعٌ وتسعونَ سنةً، قالَ حُمَيْدٌ: تُوُفِّيَ أنسٌ وعمرُهُ تسعٌ وتسعونَ سنةً، أمَّا قولُ من قالَ: مائةٌ وعشرُ سنينَ، ومائةٌ وسبعُ سنينَ، / فعندِي فيه نظرٌ، لأنَّهُ أكثرَ ما قيلَ في عمرِهِ عندَ الهجرةِ عشرُ سنينَ، وأكثرُ ما قيلَ في وفاتهِ سنةَ ثلاثٍ وتسعينَ، فيكونُ له عَلَى هذا مائةَ سنةٍ وثلاثِ سنينَ.
          وأمَّا عَلَى قولِ من يقولُ: إنَّهُ كانَ له في الهجرةِ سبعِ سنينَ، أو ثمان سنينَ، فينقصُ عن هذا نقصًا بَيِّنًا، واللهُ أعلمُ.
          وهو آخرُ من تُوُفِّيَ بالبصرةِ من الصحابةِ، وكان موتهُ بقصرِهِ بالطَّفِّ، ودفن هناكَ عَلَى فرسخينِ من البصرةِ، وصلَّى عليهِ قطنُ بْن مُدْرِكٍ الكلابيُّ، ☺ وأرضاهُ، انتهى.
          (حَدَّثَهُمْ) أي الجمعُ الذي كان فيهم الراويُّ المذكورُ (أَنَّ الرُّبَيِّعَ) بضمِّ الراءِ وفتحِ الموحدةِ وكسرِ المُثنَّاةِ التحتيَّةِ المشددَّةِ، آخرهُ عينٌ مُهملةٌ (وَهِيَ ابْنَةُ النَّضْرِ) بفتحِ النونِ وسكونِ الضَّادِ المعجمةِ، الأنصاريةِ عمَّةُ أنسِ بن مالكٍ ( كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ جَارِيَةٍ) أي شابةٍ لا رقيقةٍ، ولم تسمَّ (فَطَلَبُوْا) أي قومُ الرُّبيع من قومِ الجاريةِ (الأَرْشَ، وَطَلَبُوْا) منهم أيضًا (العَفْوَ) عن الرُّبَيِّعِ (فَأَبَوْا) أي امتنعَ قومُ الجارية، فلم يرضوا بأخذِ الأرشِ، ولا بالعفوِ عنها (فَأَتَوُا النَّبِيَّ صلعم) وتخاصَموا بينَ يديهِ (فَأَمَرَهُم) ولأبي ذرٍّ: فأمرَ بحذفِ ضميرِ النصبِ (بِالقِصَاصِ، فَقَالَ أَنَس) ابنُ النَّضرِ، وهو عمِّ أنسِ بن مالكٍ، رُوِيَ عن أنسِ بن مالكٍ أن عمَّهُ غابَ عن قتالَ بدرٍ، فقالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، غِبْتُ عَنْ(5) أَوَّلِ قِتَالٍ قَاتَلْتَ فِيهِ الْمُشْرِكِينَ، وَاللهِ لَئِنْ أَشْهَدَنِي اللهُ قِتَالَ الْمُشْرِكِينَ لَيَرَيَنَّ اللهُ مَا أَصْنَعُ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ انْكَشَفَ الْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ: اللَّهمَّ إِنِّي أعَتْذِرُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلاءِ_يَعْنِي الْمُسْلمُوْنَ_ وَأَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا جَاءَ بِهِ هَؤُلاءِ. يَعْنِي الْمُشْرِكُوْنَ، ثُمَّ تَقَدَّمَ، فَاسْتَقْبَلَهُ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ / فَقَالَ: أَيْ سَعْدٌ، هَذِهِ الْجَنَّةُ وَرَبِّ أَنَسٍ أَجِدُ رِيحَهَا دُونَ أُحُدٍ، قَالَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ: فَمَا اسْتَطَعْتُ مَا صَنَعَ فقَاتل. قَالَ أَنَسٌ: فَوَجَدْنَا بِهِ بِضْعًا وَثَمَانِينَ مَا بَيْنَ ضَرْبَةٍ بِسِيْفٍ، أَوْ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، أَوْ رَمْيَةٍ بِسَهْمٍ، وَوَجَدْنَاهُ قَدْ قُتِلَ وَمَثَّلَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، فَمَا عَرَفَتْهُ أُخْتُهُ الرُّبَيِّعُ بِنْتُ النَّضْرِ إِلا بِبَنَانِهِ.
          وقال أنسٌ: كنا نَرَى أَوْ نَظُنُّ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِيهِ وَفِي أَشْبَاهِهِ: {رِجَالٌ صَدَقُوْا مَا عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ} الآية [الأحزاب:23].
          (أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ يَا رَسُولَ اللهِ، لاَ واللهِ الَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ، لاَ تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا).
          قال في ((الفتحِ)): وقد اسْتُشْكِلَ إنكارُ أنسِ بن النَّضْرِ كسرَ سنِّ الرُّبَيِّعِ مع سماعهِ من النبيِّ صلعم الأمرَ بالقصاصِ، ثمَّ قالَ: أَتُكْسَرُ سِنُّ الرُّبَيِّعِ، ثم أقسمَ أنها لا تُكسرُ، وأُجِيْبَ بأنهُ أشارَ بذلكَ إلى التأكيدِ على النبيِّ صلعم في طلبِ الشَّفاعةِ إِليهم أنه يعفوا عنها، وقيل كان حلفُهُ قبلَ أن يعلمَ أن القصاصَ حتمٌ، فظنَّ أنه على التخييرِ بينهُ وبين الدِّيَّةِ أو العفوِ، وقيلَ لم يُرِدْ الإنكارَ المحضَ والردَّ، بل قالهُ توقُّعًا ورجاءً من فضلِ اللهِ أن يُلْهِمَ الخصومَ الرِّضَا حتى يَعفوا أو يقبلوا الأرشَ.
          وبهذا جزمَ الطِّيْبِيُّ فقال: لم يقلْهُ ردًّا للحكمِ بل نفى وقوعَهُ؛ لِما كانَ له عندَ اللهِ من اللُّطْفِ بهِ في أمورهِ والثقةِ بفضلِهِ أن لا يُخَيِّبَهُ فيما حلفَ بهِ ولا يخيبَ ظنَّهُ، فيما أرادَهُ بأن يُلْهِمَهُمْ العفوَ، وقد وقعَ الأمرُ على ما أرادَ.
          (فَقَالَ) أي النبيُّ صلعم، وللأصيليِّ: «قال»: (يَا أَنَسُ كِتَابُ اللهِ القِصَاصُ)
          قال في ((الفتحِ)): واختُلِفَ في ضبطِ قولهِ صلعم: «كتابُ اللهِ القصاص»: والمشهورُ أنهما مرفوعانِ على أنهما مبتدأٌ وخبرٌ، وقيل منصوبانِ على أنه مما وُضِعَ فيهِ / المصدرُ موضعَ الفعلِ، أي كتبَ اللهُ القصاصَ أو على الإغراءِ و((القصاصُ)) بدلٌ منهُ، فيُنصبُ أو ينصبُ بفعلٍ محذوفٍ، ويجوزُ رفعهُ بأن يكونَ خبرَ مبتدإٍ محذوفٍ.
          واخْتُلِفَ أيضًا في المعنى: فقيل المرادُ حكمَ كتابِ اللهِ القصاصُ، فهو على تقديرِ حذفِ مضافٍ، وقيل المرادُ بالكتابِ الحكمُ، أي حكمُ اللهِ القصاصُ، وقيلَ أشارَ إلى قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة:45] وقيل إلى قولهِ: {فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِه} [النحل:126] وقيلَ إلى قولهِ: {وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ} [المائدة:45] في قوله: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا} [المائدة:45] بناءً على أن شرعَ من قبلَنَا شرعٌ لنا ما لم يَرِدْ في شرعِنَا ما يرفعُهُ.
          (فَرَضِيَ القَوْمُ وَعَفَوْا) عن الرُّبَيِّعِ، وتركوا القِصاصَ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم: إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ لَأَبَرَّهُ) في قسمهِ، وهو ضدُّ الحنثِ، وجعلهُ من زمرةِ المُخلصينَ، وأولياءِ اللهِ المطيعينَ.
          (زَادَ الفَزَارِيُّ) بفتحِ الفاءِ وتخفيفِ الزَّاي والراءِ، مروانُ بن معاويةَ الكوفيُّ، فيما وصلهُ المؤلفُ في سورةِ المائدةِ [خ¦4611].
          (عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيْلُ، عَنْ أَنَسٍ، فَرَضِيَ القَوْمُ وَقَبِلُوا الأَرْشَ) وفي ((الفتحِ)): زادَ معتمرٌ: فعَجِبَ النبيُّ صلعم، وقال: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللهِ» أي لأبرَّ قسمَهُ.
          ثم قالَ: ووجهُ تَعَجُّبِهِ أن أنسَ بن النضرِ أقسمَ على نفيِّ فعلِ غيرِهِ، مع إضرارِ ذلكَ الغيرِ على إيقاعِ ذلكَ الفعلِ، فكانَ قضيةُ ذلكَ في العادةِ أن يحنثَ في يمينهِ، فألهم اللهُ الغيرَ العفوَ، فبرَّ قسمَ أنسٍ، وأشارَ بقولهِ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللهِ» إلى أنَّ هذا الاتفاقَ إنما وقعَ إكرامًا من اللهِ لأنسٍ؛ ليبرَّ يمينَهُ وأنه من جملةِ عبادِ اللهِ الذين يجيبُ دُعاءهُم، ويعطيهم أَرَبَهُمْ.
          ثم قالَ: وفيهِ جوازُ الحلفِ فيما يُظَنُّ وُقُوْعُهُ، / والثناءُ على من وقعَ له ذلكَ عندَ أمنِ الفِتنةِ بذلكَ عليهِ.
          واستحبابُ العفوِ عن القصاصِ، والشفاعةُ في العفوِ، وأنَّ الخِيَرَةَ في القصاصِ أو الديةِ للمُستحقِّ على المُستحقِّ عليهِ.
          وإثباتُ القِصاصِ من بين النساءِ في الجراحاتِ وفي الأسنانِ.(6)
          وفيه الصلحُ على الدِّيَّةِ، وجريانُ القِصاصِ في كسرِ السِّنِّ، ومحلُه فيما إذا أمكنَ التماثلُ، بأن يكونَ المكسورُ مضبوطًا؛ فَيَبْرِدُ من سِنِّ الجانِي ما يُقابلُهُ بالمِبْرَدِ مثلًا، قالَ أبو داودَ في ((السنن)) قلت لأحمدَ: كيفَ؟ فقال: يُبْرَدُ.
          منهم من حملَ الكسرَ في هذا الحديثِ على القلعِ وهو بعيدٌ. انتهى.
          وهذا عند الحنفيةِ ففي ((شَرْحِ النُّقَايَة)) للشُّمُنِّيِّ: ولا تَرِدُ في عظمٍ؛ لأن المماثلةَ فيه متعذرةٌ لأنه إذا كُسِرَ موضعٌ ينكسرُ موضعٌ آخر، إلا في السنِّ لإمكان المماثلة، فتُقْلَعُ إن قُلِعَتْ سنُّ المجنيِّ عليهِ، ويُبردُ بالمبردِ إن كُسِرَتْ.
          في ((شرحِ الكنزِ)) عن ((النهايةِ)) معزيًّا إلى ((الذخيرةِ))، وفي ((المبسوطِ)) أنه لا قِصَاصَ في قلعِ السنِّ، لتعذُّرِ اعتبارِ المماثلةِ فيه إذ ربما تفسدُ لَهَاتُهُ ولكن يبردُ بالمبردِ إلى موضعِ أصلِ السنِّ. والله أعلم.


[1] في المخطوط زيادة: «بن».
[2] في المخطوط: « اسمه ».
[3] في المخطوط: « الأنس ».
[4] في المخطوط: « يقال ».
[5] في المخطوط: « فقال رسول الله صلعم غبت عنه » والتصويب من مصادر التخريج.
[6] في المخطوط: « الإنسان ».