كفاية القاري في شرح ثلاثيات البخاري

المقدمة

          ♫(1)
          الحمدُ لله الذي جعل عُلُوَّ السَّندِ الصحيحِ من أقربِ القُرَبِ، وصَيَّرَهُ غايةَ المقاصدِ من العلوم ونهايةَ الأرَبِ.
          أحمدهُ سبحانه وتعالى على أن خَصَّ بهذه المنقبةِ العَلِيَّةِ، إمامَ أئمةِ الحديثِ والأخبارِ النبويةِ، صاحبَ الصَّحيحِ البخاريَّ، الذي في فضلِهِ وتقدُّمِهِ ما أحدٌ يُماري.
          وأشكرهُ ╡ على ما شرحَ صدورَ أهلِ الحديثِ بحفظِ كتابه، وإيضاحِ مطالبهِ، وبيان مآربِهِ، وفهمِ خطابه، والصلاةُ والسلام على سيِّدنا ونبيِّنا مُحمدٍ الذي أمرنا بتبليغِ أحاديثهِ إلى أمته، وعلى آله وأصحابهِ الذين شرحوا أحاديثه وحَلُّوا مشكلاتِها لأهل مِلَّتِهِ.
          أما بعدُ:
          فلما كان أصحَّ الصِّحاحِ صحيحُ البخاريِّ، وأعلى أسانيدهِ الثُّلاثياتِ التي خُصَّ بها بعنايةِ الملك الباري، فهي أقربُ الأسانيدِ إلى الرسول صلعم، وأرجى ما يُتَقَرَّبُ به إلى الله سبحانه وتعالى؛ لاحتوائها على قُرْبِ الإسنادِ وصحةِ الرُّواةِ والاستنادِ، فالاعتناءُ بها سنةٌ حسنةٌ، والابتداءُ بقراءتها مما استحسنتهُ الأفئدةُ والألسنةُ:
          فقد قالَ الإمامُ أحمدُ بن حنبلٍ: طلبُ الإسنادِ العالِي سنةٌ عمَّنْ سَلَفَ.
          وقالَ محمدُ بن أسلمَ الطُّوْسِيُّ: قُرْبُ الإسنادِ قربةٌ إلى الله ╡.
          وقالَ الحاكمُ: طلبُ الإسنادِ العالي سنةٌ صحيحةٌ، فذكرَ حديثَ أنسٍ في مجئ الأعرابيِّ، وقولَه: «يَا مُحَمَّدُ أَتَانَا رَسُوْلُكَ فَزَعَمَ...» الحديث، قال: ولو كان العُلُوُّ في / الإسنادِ غير مستحبٍّ لأنكرَ عليهِ النبي صلعم سؤالَهُ عما أخبرهُ رسوله عنه، ولأمرَهَ بالاقتصارِ على ما أخبرَ الرسولُ عنه، ولم يحكِ الحاكمُ خلافًا في تفضيلِ العُلُوِّ. انتهى.
          فحيثُ كانَتْ هذه الثلاثياتُ مع قُرْبِهَا أصحَّ من سائرِ الرِّواياتِ، فالخوضُ في شرحها من أرجى الأعمالِ، وأقربِ ما يُتوسلُ به إلى بلوغِ الآمال، فلذا نخوضُ في إيضاحِ معانيها، وبيانِ ألفاظِها ومبانيها، فأقول مستعينًا باللهِ ومفوِّضًا أمري إلى الله:
          ثلاثياتُ الإمامِ البخاريِّ التي أفردَهَا العلماءُ على حسبِ اطِّلاعنا اثنانِ وعشرون حديثًا، وقد عَدَّهَا الكِـَرْمَانِيُّ وَالقَسْطَلَانِيُّ في شَرحيهما على البخاريِّ على النمط الذي أوردنَاها عليهِ، وقالَ في ((فتحِ الباري)) عند(2) ذكر هذا الحديث الآتي: وهذا(3) الحديثِ أولُّ ثُلاثيٍّ وقع في البخاريِّ، وليسَ فيه أعلى من الثلاثياتِ، وقد أُفْرِدَتْ فبلغَتْ أكثرَ من عشرينَ حديثًا.
          ثم قالَ في شرحِ حديثِ عيسى بن طَهْمَانَ [خ¦7421] ما معناه: وهذا آخرُ ما وقع في الصحيح من ثلاثياتِ البخاريِّ. انتهى.
          وقد صَرَّحَ الكِـَرْمَانِيُّ وَالقَسْطَلَانِيُّ عند ذكرِ هذا الحديثِ بأنه هو الثاني والعشرون من ثلاثيات البخاريِّ، وهو آخرُ ثلاثياتهِ، وقد اتَّفَقَ الشُّرَّاحُ الثلاثةُ على هذا العددِ فلا عِبْرَةَ بمن خالفَ القول المعتمد.
          واعلمْ أنَّ هذه الثلاثياتِ رواها البخاريُّ عن ثلاثةٍ من الصحابة ♥:
          فعن سَلَمَةَ بن الأكوع سبعة عشرَ حديثًا، وعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أربعةَ أحاديثَ، وعن عَبْدِ اللهِ بْنِ بُسْرٍ ☺ حديثًا واحدًا.
          والرُّواةُ عن الصحابةِ المذكورينَ أربعةٌ:
          يَزِيْدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ ومَروياتهُ سبعةَ عشرَ حديثًا، وحُمَيْدٌ الطَّوِيْلُ ومروياته ثلاثةُ أحاديث، وحَرِيْزُ بْنُ عُثْمَانَ ومَرْوِيُّهُ واحدٌ، [وعيسى بن طَهْمَانَ ومَرْوِيُّهُ واحدٌ](4) .
          ومشايخ البُخَارِيِّ [في هذه] الثلاثياتِ / خمسةٌ:
          مكِّيُّ بن إبراهيمَ ومروياتُهُ أحد عشرَ حديثًا.
          وأبو عاصمٍ(5) النَّبيلُ ومروياتهُ ستةٌ(6) .
          ومحمدُ بن عبدِ اللهِ الأنصاريُّ ومروياته ثلاثةٌ.
          وعصامُ بن خالدٍ ومَرْوِيُّهُ واحدٌ.
          وخَلَّادُ بن يحيى ومَرْوِيُّهُ واحدٌ.
          فهذه ضابطةُ ثلاثياتِ البخاريِّ، فينبغي التفطُّنُ لها للسامعِ والقارئ. انتهى.


[1] في الأصل الخطي: تَصْنِيْفُ مَوْلَانَا العَالِمِ العَلَّامَةِ مُفِيْدِ عَصْرِهِ، وَوَحِيْدِ دَهْرِهِ المُتَفَنِّنِ في سَائِرِ العُلُوْمِ مَوْلَانَا الشَّيْخِ حَمِيْدٍ السِّنْدِيِّ الحَنَفِيِّ تَغْمَّدَهُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ، وَأَسْكَنَهُ فَسِيْحَ جَنَّاتِهِ، وَجَمِيْعَ المُسْلِمِيْنَ. آمِيْنَ يَارَبَّ العَالَمِيْنَ. وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا.
[2] في المخطوط: «عنه».
[3] في المخطوط: «وفي هذا»، وضرب على «في».
[4] ما بين معقوفين زيادة على المخطوط، وقد اضطرنا السياق لزيادات قليلة لتقويم سياق النص جعلناه بين معقوفين، كما أن في المخطوط إشكال في التذكير والتأنيث حللناه دون تنبيه.
[5] في المخطوط: «عامر» تصحيفًا.
[6] وقع في الحديث (2295) من البخاري اختلاف بين الرواة في تسمية شيخ البخاري هل هو المكي أم النبيل؟ وعدُّ الشيخ هنا مبنيٌّ على أنَّه النبيل، وهذه هو سبب الخلاف في عدِّ ثلاثيات الشيخين _المكي والنبيل_ في البخاريِّ.