واختلفوا في كيفية الميزان الذي يوزن فيه أعمال العباد:
فقيل: إنه ميزان كميزان الشَّعَرِ، وفائدتُه إظهارُ العدل والمبالغةُ في الإنصاف. حكاه العَيْنِيُّ والكِرْمانيُّ(1) .
والأصح: أنَّه جسمٌ محسوسٌ، ذو لسانٍ وكِفَّتَينِ، وميلٍ بالأعمال(2)، لأنَّه لو جاز حَمْلُ الميزان على ما ذُكِرَ لجاز حمل الصراطِ على الدين الحقِّ، والجنَّةِ والنارِ على ما يَرِدُ على الأرواح دون الأجسادِ من الأحزانِ والأفراحِ، وهذا كلُّهُ فاسدٌ لأنَّه ردٌّ لما جاء به الصادق في الصحيحين: «فيُعطى صَحِيفَةَ حَسَناتِهِ» [خ¦2441][م:1422]، وقولِه: «فَتُخْرَجُ بطاقةٌ»، وذلك يدلُّ على الميزان الحقيقيِّ، وأنَّ الموزونَ صُحُفُ الأعمال.
وما أحسنَ قول القائل(3) : [من الوافر]
تَذَكَّرْ يَوْمَ تَأْتِي اللهَ فَرْدًا وَقَدْ نُصِبَتْ مَوازينُ القضاء
وَهُتِّكَتِ السُّتورُ عنِ المعاصي وجاءَ الذنبُ مكشوفَ الغِطاء
وقد جاء: أنَّ كِفَّةَ الحسناتِ من نورٍ، والأخرى من ظلامٍ، فالكِفَّةُ النيِّرَةُ للحسناتِ، والمظلمةُ للسيِّئات(4) .
وجاء في الخبر: أنَّ الجنَّةَ توضع عن يمين العرش والنَّار عن يساره، ويؤتى بالميزان، فتُنصبُ بين يديِ اللهِ تعالى كفَّةُ الحسناتِ عن يمين العرش، مقابل الجنَّةِ، وكِفَّةُ السيئاتِ عن يسار العرش، مقابل النَّار. ذكره الترمذي(5) في / ((نوادر الأصول))(6) .
ورُوِيَ عن حذيفة موقوفًا: أنَّ صاحبَ الميزان يوم القيامة جبريلُ ◙ (7) .
وذكر الغزاليُّ: أنَّه يُؤتى برجلٍ يومَ القيامة، فما يجد حسنةً يرجح بها ميزانه، وقد اعتدلت بالسَّوية، فيقول الله تعالى له رحمةً منه: اذهب في الناس فالتمس مَنْ يُعطيك حسنةً أُدخلْكَ بها الجنَّة، فيجول خلالَ العالمينَ، فيما يجد أحدًا يكلِّمُه في ذلك الأمر إلَّا يقول له: خفتُ أن تُخِفَّ ميزاني فأنا أحوج منك إليها! فيقول له رجلٌ: ما الذي تطلب؟ فيقول: حسنةً واحدةً! فلقد مررت بقوم لهم آلافٌ حسنة(8)، فبَخِلوا عليَّ! فيقول له الرجل: لقد لقيت الله تعالى فما وجدت في صحيفتي إلا حسنةً واحدةً وما أظنُّها تغني عني شيئًا فخذها هبةً منِّي إليك. فينطلق بها فرحًا مسرورًا فيقول الله: ما شأنُك؟ _وهو أعلم_فيقول: يا ربِّ اتفق من أمري كيت وكيت. ثم ينادي الله سبحانه وتعالى صاحبه الذي وهبه الحسنةَ، فيقول له سبحانُه: كَرَمي أوسعُ من كَرَمِكَ خُذْ بيد أخيك وانطلق به إلى الجنَّة.(9)
وروى البيهقيُّ عن أنسٍ مرفوعًا: «قالَ مَلَكٌ مُوكلٌ بالميزانِ: فيؤتى بابنِ آدمَ، فيوقف بين كِفَّتَيِ الميزانِ، فإنْ ثَقُلَ ميزانُه نادى مَلَكٌ موكلٌ بصوتٍ يُسْمِعُ الخلائقَ: سعِدَ فُلانٌ، / سعادةً لا يشقى بعدَها أبدًا. وإنْ خَفَّتْ ميزانُهُ نادى مَلَكٌ بصوتٍ يُسْمِعُ الخلائقَ: شَقِيَ فُلانٌ شَقاوَةً لا يَسْعَدُ بَعْدَها أَبدًا»(10) .
وروى الحاكمُ عنْ سلمانَ ☺، عن النبيِّ صلعم، قال: «يُوضَعُ الميزانُ يومَ القيامةِ، فَلَوْ أُوي فيه السمواتُ والأرضُ لوُضِعَتْ. فتقولُ الملائكةُ: سبحانَكَ ما عَبَدْناكَ حَقَّ عِبادَتِكَ!»(11) .
وقيل: «سألَ داودُ ◙ ربَّه أنْ يريَهُ الميزانَ، فلما رآهُ أُغميَ عليه من هولِهِ، ثمَّ أفاقَ، فقال: إلهي! مَن يقدر يملأُ كِفَّةَ هذه الميزانِ حسناتٍ؟! فقال: يا داودُ! إذا رضيتُ على عبدي ملأتُهُ بتمرةٍ واحدةٍ»(12) .
[1] ذكره العيني في العمدة، 25/302. وهو نص الكرماني في الكواكب الدراري25/249.
[2] لسان الميزان: الخيط الذي ترفع به كفتا الميزان. انظر: المحكم والمحيط الأعظم، ░ل س ن▒ والمصباح المنير، مادة ░عَذُبَ▒ .
[3] أورده القرطبي في تذكرته، ص725، ولم أقف على قائله.
[4] ذكر هذا البيهقي في شعب الإيمان، 1/446، دون ذكر سند أو رفع إلى النبي صلعم.
[5] هو الحكيم الترمذي، وصفه الذهبي بالإمامة والعلم والحفظ والزهد، روى عن قتيبة بن سعيد وعتبة بن عبد الله المروزي، وعنه يحيى بن منصور القاضي، والحسن بن علي، وكلاهما من نيسابور. هجره أهل ترمذ لتصنيفه: «ختم الولاية»، وله «علل الشريعة». انظر: حلية الأولياء، 10/233، وسير أعلام النبلاء، 13/439. والأعلام، 6/272.
[6] نوادر الأصول في أحاديث الرسول للحكيم الترمذي، 1/44، وفي النوادر: «فينصب» بالتحتية. وعنه القرطبي في تذكرته ص240.
[7] انظر: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، لـ: اللالكائي رقم/2209، مج2، ج4/1173.
[8] كذا في المخطوط، ولعل الصواب: آلاف الحسنات، والذي في الدرة الفاخرة دون: ░حسنة▒ .
[9] الدرة الفاخرة في كشف علم الآخرة، ص107-108.
[10] الحديث معزو في تذكرة القرطبي إلى اللالكائي وهو عنده في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، برقم/1203، ج3/1243 والحديث أخرجه أبو نعيم في الحلية 6/174 والبزار في مسنده ر/6942 والحارث كما في بغية الباحث عن زوائد مسند الحارث، رقم/1125، 2/1004. وجميعها شديدة الضعف، فيها داود بن المحبر عن صالح بن بشير المُرِّي؛ الأول متروك والثاني ضعيف.
[11] الحاكم، المستدرك، كتاب: الأهوال، رقم: 8801، 5/49، وساق القسطلاني الحديث مختصرًا.
وبهامش الأصل حاشية: وروى صاحب الفردوس وابنه أبو منصور الديلمي عن عائشة ♦ قالت: قال رسول الله صلعم: خلق الله ╡ كفتي الميزان مثل أو ملء السموات والأرض، فقالت الملائكة: يا ربنا من تزن بهذا؟ قال: أزن به من شئت من خلقي. اهـ. والحديث فيه برقم: 2948.
[12] هكذا روي هذا الخبر دون إسناد في العديد من كتب التفسير، وفي جميعها: «رضيت عن عبدي»، انظر تفسير البغوي5/321.