المبحث الرابع: في قوله: «سُبْحانَ اللهِ العظيمِ»
إنَّما كرَّر التنزيهَ طلبًا للتأكيد، واعتناءً بشأن التنزيه، وختم باسمه العظيم للجمع بين مقامَيْ الرجاءِ والخوفِ، فإنَّ معنى «الرَّحْمن» يَرْجِع إلى الإنعام والإحسان، ومعنى «العَظِيم» يرجع إلى الخوف من هيبته تعالى، لأنَّ معناه عند أهل الحقِّ يرجع إلى استحقاقِهِ صفاتِ العلوِّ / والمجدِ ورِفْعَةِ القَدْرِ، فهو سبحانه وتعالى رفيعُ القَدْرِ عظيمُ النَّعْتِ.
وأما عند أهل اللُّغة فلا يكونُ إلا بأحد أمرَيْنِ: إمَّا لِعِظَمِ الذات، ويعود ذلك إلى كثرة الأجزاء، وإما لِعِظَمِ القَدْرِ.
وكثرةُ الأجزاء في صفته تعالى محالٌ، فيجب أن يكون بمعنى استحقاق علوِّ الوصف، وأوصافِ التعالي، واستحقاقِ القِدَمِ، ووجوب الوحدانيَّةِ، والانفراد بالقدرة على الإيجاب، وشمول العلم بجميع المقدورات، ونفوذ الإرادة، وإدراك السمع والبصر بجميع المسموعات والمرئيَّات، واستغناءه عن الأنصار والأعوان، وتقدُّسِهِ عن الأقطار والأزمان.
روي عن الأوزاعيِّ، أنَّه قال: «بلغني أنَّ اللهَ تعالى، يقولُ: وَعِزَّتِي! لو يعلمُ العبادُ قَدْرَ عَظَمَتي، ما عَبَدوا غَيري»(1) .
وسئل بعضهم عن عظمة الله تعالى، فقال: ما يقول فيمن له عبدٌ واحدٌ، له ستُّمائةِ ألفِ جناحٍ، لو نشر جناحًا منها سدَّ الخافقين.
وجاء عن عكرمةَ أنَّه قال: «إِنَّ في السماءِ مَلَكًا يُقال له: إسماعيلُ، لو أُذِنَ له فَفَتَحَ أُذُنًا مِنْ آذانِهِ، فسبَّحَ الرحمنَ ╡ لماتَ مَنْ في السمواتِ والأرضِ»(2) .
ويُروى عن ابن عباس ☻ أنَّه سمع النبيَّ صلعم يقول: «إِنَّ لِلَّهِ مَلَكًا / لو قيلَ لَهُ: التَقِمِ السمواتِ السبْعَ والأَرَضِينَ السَّبْعَ. لَفَعَلَ، تَسْبِيحُهُ: سُبْحَانَكَ حَيْثُ كُنْتَ»(3) .
وعن جابرٍ، عنه ◙، قال: «أُذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ مَلَكٍ مِنْ مَلائكةِ اللهِ ربِّي ╡ مِنْ حَمَلَةِ العَرْشِ؛ ما بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إلى عاتِقِهِ مَسيرَةُ خَمْسِ مائةِ عامٍ، أو قال: خمسينَ عامًا»(4) .
وعن أبي هريرة ☺ عنه صلعم قال: «إِنَّ اللهَ ╡ أَذِنَ لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ ديكٍ رِجْلاهُ في الأَرْضِ وعُنُقُهُ مَثْنِيَّةٌ تَحْتَ الْعَرْشِ، وَهُوَ يَقولُ: سُبْحَانَكَ ما أَعْظَمَكَ رَبَّنا!. قالَ: فَيَرُدُّ عَلَيْهِ: مَا يَعْلَمُ ذلكَ مَنْ حَلَفَ بِي كاذِبًا »(5) .
وقيل: إنَّ لِلَّهِ تعالى مَلَكًا لهُ أربعةُ أَوْجُهٍ، وَمَلَكًا له ألفُ رأسٍ؛ في كلِّ رأسٍ ألفُ ألفِ وجهٍ، وملكًا له أربعةُ أجنحةٍ؛ جناحٌ بالمشرقِ، وجناحٌ بالمغرب، وجناحٌ في السماء السابعة، وجناحٌ في الأرض السابعةِ، وإنَّ هذه الملائكةَ يبكونَ ليلًا ونهارًا على المذنِبين من أمَّة محمَّدٍ صلعم، فيقول اللهُ تعالى لهم: ولم تبكونَ عليهم، وهم يعملونَ كذا وكذا؟! يعدِّدُ ذنوبهم. فيقولون: أليس نبيُّهُمْ محمَّدًا صلعم ؟ فيقول اللهُ تعالى لهم: صدقتم. فيقولونَ: وقد أعطيتَهُمْ شهرَ رمضانَ؟ فيقول الله: نعم، اشهدوا أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لهم.(6)
وعن وَهْبٍ، قال: إِنَّ حَمَلَةَ العرشِ _الذين يحملونَه_لكلِّ مَلَكٍ منهم أربعةُ وجوهٍ، وأربعةُ أجنحةٍ؛ جناحانِ على وجهِهِ يستُرانِهِ من أن ينظرَ إلى العرشِ فيصعَقَ، / وجناحانِ يطيرُ بهما؛ أقدامُهُمْ في الثرى، والعرشُ على أكتافِهِمْ، لكلِّ واحدٍ منهم وجهُ ثورٍ، ووجهُ أسدٍ، ووجهُ إنسانٍ، ووجهُ نسرٍ، ليس لهم كلامٌ إلا أن يقولوا: قدِّسوا اللهَ القويَّ؛ مَلَأَتْ عظمتُه السمواتِ والأرضَ.(7)
وجاء في بعض الأخبار: أنَّ مَلَكًا من الملائكة، قال: يا ربِّ إنِّي أُريد أن أرى العرش، فزِدْ في قوَّتي في طيراني لعلِّي أُدْرِكُهُ. فخلق الله له ثلاثين ألف جناحٍ، فطار ثلاثين ألفَ سنةٍ، فقال الله تعالى له: هل بلغت إلى أعلى العرش؟ فقال: ياربِّ لم أقطع بعد قائمة العرش! واستأذن أن يعود إلى مكانه(8) .
وقال كعب: «ميكائيلُ لا يعرف أحدٌ صفته ولا عدد أجنحته، ولا يقدر أحدٌ على وصفه إلَّا الله تعالى، ولو أنَّ هذا المَلَكَ فتح فاهُ، لم تكن السموات والأرض في فيه إلَّا كالخردلة في البحر الأعظم. قال: وإسرافيلُ له أربعة أجنحةٍ؛ جناحٌ سدَّ به المشرق، وجناحٌ سدَّ به المغرب، والثالث قد نزل به من السماء إلى الأرض، والرابع قد الْتَثَمَ به من عظمة الله تعالى، ورِجْلاه في الأرض السابعة السفلى، ورأسُه قد انتهت إلى أركان قوائم العرش، وبين عينيه لوحٌ من جوهرٍ، فإذا أراد الله تعالى أن يُحْدِثَ أمرًا في عباده، أَمَرَ / القلمَ حتَّى يخطَّ في اللوح، ثم أدلي اللوح إلى إسرافيلَ، فيكون بين عينَيْه، فينتهي الوحيُ إلى جبريلَ، وهو أقربُ من إسرافيلَ».
وقال ابن الجوزي في المبتدأ(9) : أعطى اللهُ تعالى إسرافيلَ قوَّةَ سبع سمواتٍ، وقوَّةَ سبع أرضينَ، وقوَّةَ الريح والجبال، وهو من رأسه إلى بطون قدميه أفواهٌ وألسنٌ، وهي مغطَّاةٌ بأجنحةٍ وريشٍ، وكلُّ ريشٍ منه وجناحٍ يقدِّسُ اللهَ تعالى ويمجِّدُه، وينظر كلَّ يومٍ إلى جهنَّمَ نظرةً فيذوب جسمُه خوفًا من الله تعالى حتى يصير كوتر القوس، ثم يبكي كلَّ ساعةٍ بحرًا من الدموع؛ لو انسكب من السماء لطبَّقَ به الأرض، ولكن يخلق الله تعالى منه من كلِّ قطرةٍ ملكًا.(10)
وقيل: إنَّ موسى ◙ أراد أن يرى السَّمَكَ الذي عليه العالم، فأمره الله تعالى أن يأتي شاطئ البحر، فأتى ◙ شاطئ البحر، فصعد حوتُ سمكٍ من البحر، فأخذ يصعد نحو السماء، فلم يزل يصعد ثلاثة أيَّامٍ متَّصلًا، فضاق قلب موسى ◙، فقال: إلهي! أهو مثل هذا؟ فأوحى الله تعالى إليه: إنَّه يأكل كلَّ يومٍ ألف سمكٍ مثل هذا(11) .
فمن علم أنَّ مقدوراتِهِ تعالى لا نهايةَ لها؛ علم أنَّه لو أراد أن يخلق في لحظةٍ ألف ألف عالَمٍ لم يكن ذلك عليه بأشقَّ من خلق نملةٍ، ولا خَلْقُ نملةٍ بأهونَ / عليه من خلق ألف ألف عالَمٍ، لأنَّه ?منزَّهٌ عن لحوق مشقَّةٍ وراحةٍ، تعالى الله العظيم عن ذلك(12) .
[1] هذا من بلاغات الأوزاعي، انظر: صفة الجنة وما أعد الله لأهلها من النعيم لابن أبي الدنيا، 1/59.
[2] أبو الشيخ، في العظمة، رقم: 324، 2/750. وفي إسناده إبراهيم بن الحكم بن أبان العدني وهو ضعيف. وعن أبي الشيخ رواه أبو نعيم في الحلية، ترجمة عكرمة مولى ابن عباس، 3/341.
[3] أخرجه الطبراني في الأوسط، في من اسمه محمد 6/290، وقال: «لم يرو هذا الحديث عن الأوزاعي إلا بشر بن بكر تفرد به وهب الله بن رزق»، ورواه في الكبير، رقم: 11476، 11/195، وأخرجه أبو نعيم في الحلية، ترجمة عطاء بن أبي رباح، 3/318. ووهب الله بن رزق المصري أبو هريرة، قال الهيثمي في المجمع، رقم: 254، 1/252: «لم أر من ذكر له ترجمة».
[4] أخرجه أبو الشيخ، في العظمة، رقم: 476، 3/948، وللحديث رواية مشهورة أخرجها أبو داود في السنن، كتاب: السنة، باب في الجهمية، رقم: 4694، 5/238. لكن قال: «مَا بَيْنَ شَحْمَةِ أُذُنِهِ إِلَى عَاتِقِهِ مَسِيرَةُ سَبْعِ مِائَةِ عَامٍ».
[5] أخرجه الحاكم في المستدرك 4/297، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. وأخرج نحوه بخلاف يسير: أبو الشيخ في العظمة، رقم: 524، 3/1003، ورقم: 1248، 5/1755. وصححه رضاء الله المباركفوري، وفي القلب من تصحيحه شيء لتفرد حاصل في بعض رجال السند.
[6] لم أجده، قلت: الوضع ظاهر عليه، ونحوه في نزهة المجالس باب فضل رمضان..1/150.
[7] أخرجه أبو الشيخ في العظمة، رقم: 40، 2/600. قلت: ذكر رضاء الله المباركفوري أن رجال الإسناد موثقون إلى وهب بن منبه المشهور برواية الإسرائيليات، قلت: متنه غريب لا يركن إليه.
[8] قلت: لم أجده.
[9] هو اسم كتاب ضمن كتاب: الموضوعات في الأحاديث المرفوعات، للحافظ أبي الفرج عبد الرحمن ابن الجوزي الحنبلي، ولم أجده فيه.
[10] علائم الوضع لائحة على هذا القيل، والعجب ممن يرويه ولا يبين وضعه.
[11] قال د. محمد محمد أبو شهبة في كتابه: الإسرائيليات والموضوعات في كتب التفسير ص292: «ما يذكره بعض المفسرين، وما يوجد في بعض كتب الحديث في غروب الشمس، وأنها إذا غربت ابتلعها حوت، وما يتعلق بالسماوات، والأجرام السماوية ومن أي الجواهر هي، والأرض وعلام استقرت، وأنها على ظهر حوت، وما يذكرونه في تعليل برودة الآبار في الصيف وسخونتها في الشتاء، وعن منشأ الرعد والبرق، وعن منشأ السحاب، إلى نحو ذلك مما لا نصدق وروده عن المعصوم صلعم وما ورد منه موقوفًا، فمرجعه إلى الإسرائيليات الباطلة، أو إلى الزنادقة الذين أرادوا أن يظهروا الإسلام بمظهر الدين الخرافي الذي ينافي العلم، والسنن الكونية».
[12] ليس العجب من قدرة الله تعالى، فهو على كل شيئ قدير، بل من رواية الموضوع المكذوب على الله ورسوله، وعادة العلماء التنبيه على الموضوعات والتحذير منها، لا روايتها مع نفي الاستحالة عنها. فلا خلاف في أن ذلك من قبيل الممكن، لكن الخلاف في كون هذا صح عن رسول الله أوكون الله تعالى أوجد مثل هذا، وهذان لم يصحا.