تعليقات القاري على ثلاثيات البخاري

حديث سلمة: كنا جلوسًا عند النبي إذ أتي بجنازة

          السابع: [خ¦2289]
          قال البخاري: (حَدَّثَنَا المَكِّيُّ بنُ إِبْرَاهِيم: حَدَّثَنَا) أي قال حدثنا (يزيدُ بن أبي عُبيد عن سَلمة بن الأكوع قال: كُنَّا جُلُوْسًا عند النَّبيِّ صلعم) أي جالسين عنده في المسجد ذات يوم، كما صرَّح به في بعض الرِّوايات.
          (إِذْ أُتِيَ) أي: بصيغة المفعول، أي: جيء (بِجَنَازَةٍ) بكسر الجيم وَفتحها لغتان، وَالكسر هو الأفصح كما صَرَّحَ بهِ ابن قتيبة وَجماعة من أهل اللُّغة، وَالمراد به الميِّت، وَبالفتح السَّرير لا غير، كذا قيل، وَقيل: أنَّه بالفتح الميِّت، وَبالكسر السَّرير، وَهذا هو الأظهر، لموافقته الوجود، فتدبر.
          (فقالوا) أي أصحاب الجنازة له ◙: (صلِّ عَليها) ثم لم يُعرفْ اسمُ هذا الميت، إِلَّا أنَّه كانَ أنْصَارِيًا لِما رواهُ الحَاكِمُ من / حديث جابر بن عبد الله الأنصاري قال: «مَاتَ رَجُلٌ مِنَّا، فَغَسَّلْنَاهُ، وَكَفَّنَّاهُ، وَحَنَّطْنَاهُ، وَوَضَعْنَاهُ حَيْثُ يُوضَعُ الْجَنَائِزُ عِنْدَ مَقَامِ جِبْرِيلَ، ثُمَّ آذَنَّا رَسُولَ اللَّهِ صلعم بِهِ».
          ولعلَّ المرادَ بمقام جبريل ما أشار إليه السَّيِّد السَّمهودي في ((تاريخ المدينة)) في قِصَّةِ بني قُريظة نقلًا _عن الاكتفاء_ أنَّ جبريل ◙ أتى في ذلك اليوم على فرسٍ، وَعليه اللَّأْمَةُ حتى وَقفَ ببَاب المسجد عند موضع الجنائز، وَأَنَّه على وَجه جبريل لأثر الغبَار، انتهى.
          فلذلك يُسَمَّى الباب باب جبريل؛ إذ لم يَكن حينئذ للمسجد باب في ناحية الجنائز غيره.
          وَفيه دلالة على أنَّ المختار عدم إدخال الجنازة في المسجد النبويِّ وَأمثاله من المسَاجد الموضوعة لصَلاة الجماعة وَالجمعة، وَمَا وَقع نادرًا أنَّه ◙ صَلَّى على جَنازة في المسجد فلعلَّه كان بعذرٍ أو عدى مَا أدخل في المسجد مَسجدًا.
          وأمَّا المسجد الحرام فمُستثنى لأنَّه مَوضوعٌ لأنواع الصَّلوات بأسْرها من الجمعة وَالجماعة وَالعيدين وَالاستسقاء وَالجنازة، وَقد رَأيت في ((الدُّرِّ المنثُور)) أنَّه صُلِّيَ على آدم ◙ عند باب البَيت الحرام.
          (فقال: هَلْ عَلَيْهِ) أي الميت (دَيْنٌ ؟) أي من حقوق العبَاد وَلو يَسيرًا، (قالوا: لا) أي لا دين عليه مُطلقًا.
          (قال: فهل ترك شيئًا ؟ قالوا: لا) فإن قيل: مَا الفائدةُ من السُّؤال عند الصلاة عليه بَعد العلم بأنَّهُ لا دين عليه ؟ أُجيبَ: بأنَّه يحتمل أنَّه لو ترك شيئًا لزاد ◙ في الاستغفار له وَالدُّعاء بما يسهِّل حسَابه، (فَصَلَّى عليْهِ).
          وَعندَ الدَّارقطني من حديث علي كرَّم الله وَجهه قال: كان رَسُوْلُ الله صلعم إذا أُتي بجنازة لم يسأل عن شيء من عمله، أي ليتبيَّن أنَّه برٌّ أو فاجر، وَسأل عن دَينه، أي للاهتمام بأمره، فإن قيل: عليه دين، كفَّ، أي امتنع عن الصلاة عليْهِ، وَإن قيل: لَيْسَ عليهِ دين صَلَّى عليْهِ.
          وعند البخاري من حديث أبي هريرة قال: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ المُتَوَفَّى، عَلَيْه دَيْنُ، فَيَسْأَلُ: «هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ قَضَاءً؟»، فَإِنْ حُدِّثَ أنَّه تَرَكَ لِدَيْنِهِ قَضَاءً صَلَّى عَلَيْهِ، وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ». وَبيَّن في البخاري أنَّه ترك ذلكَ السُّؤال لَمَّا فتح الله عليه الفتوح، يعني أنَّه كان يقضي دينه من بيت المال، فكان امتناعه ◙ من الصَّلاة عليه أوَّلًا تحذيرًا منَ الدَّين، وَزجرًا عن المماطلة، وَحفظًا لشفاعته أنَّ تتوقَّف عن وَقت حَاجته إلى أداء دَينه أو رضاء خصمه.
          (ثُمَّ أُتِيَ بِجَنَازَةٍ أُخْرَى، فَقَالُوْا: يَا رَسُوْلَ اللهِ، صَلِّ عَلَيْهَا) أي على الجنازة، المراد بهَا الميِّت، أعمُّ من أنَّه رَجل أو امرَأة، (قال: هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قيل: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ تَرَكَ شَيْئًا ؟) أي لوفاء دينه، (قالوا: ثَلَاثَةُ دَنَانِيْر) أي: تركها، أي: (فَصَلَّى عَلَيْهَا)، كما في نسخة، وَالظَّاهر أنَّ تلك الدَّنانير كانت وَافيةً لدينه، وَلذا صلَّى عليه. وَللحاكم من حديث جَابر: ((ديناران)).
          وَعند الطَّبراني مِنْ حديث أسمَاء بنت يزيد: كانا دينارين وَشطرًا. وَجمع الحافظ بن حجر بينهما بأن من قال: ((ثلاثة))، جبرَ الكَسْرَ، وَمَن قال: ((دينارين)) ألغاه، أو كان أصلهما ثلاثة فوفَّى قبل مَوته دينارًا وَبقي عليه ديناران، فمن قال: ((ثلاثة))، فباعتبار الأصل، وَمن قال: ((ديناران))، فباعتبار مَا بقي.
          (ثُمَّ أُتِيَ بِالثَّالِثَةِ) أي بالجنازة الثالثة، (فَقَالُوْا: ) وَفي نسخة: قالوا: (صَلِّ عَلَيْهَا، قال: هَلْ تَرَكَ شَيْئًا ؟ قَالُوْا: لا، قال: فَهَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؟ قَالُوْا: / ثلاثةُ دنانير) بالرَّفع، أي: نعم عليْه ثلاثةُ دنانير، (قال: ) أي لأصحَابه: (صَلُوْا عَلَى صَاحِبِكُم) أي مِمَّنْ يصحبكم في الإسلام، وَيتبعكم في الأحكام.
          (قال أبو قَتادة) يعني الحارثُ بن رِبعيِّ الأنصَاري، وَهو من أكابر أصحَابه ◙، شَهِدَ مَعَهُ أُحُدًا وَمَا بعدها من المشاهد العِظام، وَقال صلعم تعظيمًا لشأنه في بعض الغزوَات: «خَيْرَ فُرْسَانِنَا الْيَوْمَ أَبُو قَتَادَة».
          روى مائة وَسَبْعِين حديثًا، مات سنة أربع وَخمسين من الهجرة بالمدينة على الصَّحيح، وَقيل: مات بالكوفة في خلافة علي، وَهو ابن سَبعين سنة، وَكان شهد معَهُ المشاهد كُلَّهَا، وَصلَّى عليه عليٌّ كرَّم الله وَجهه، وَكبَّرَ عليهِ سَبْعًا، ذكره الشَّارح مِيْرَكْ شاه، وَهُوَ ممن غلبت عليه كنيته، وَلم يُعرف في الصحابة من كُنِّيَ بهذه الكنية غيره.
          (صَلِّ عَلَيْهِ يَا رَسول الله، وَعَلَيَّ دَيْنُهُ ) أي: وَهوَ ديناران على الأصح، قال في ((الفتح)): وَفي رواية ابن ماجه من حديث أبي قتادة نفسه، فقال أبو قتادة: أنا أَتَكَفَّلُ به.
          زاد الحاكم من حديث جَابرٍ: فقال: «هُمَا عَلَيْكَ وَفِي مَالِكَ، وَالْمَيِّتُ مِنْهُمَا بَرِيء» قال: نعم، فصلَّى عليه، فجعل رسول الله صلعم إذا لقي أبا قتادة يقول: «مَا صَنَعَتِ الدِّينَارَانِ؟» حتى كان آخر ذلك أن قال: قضيتهما يا رسول الله، قال: «الآنَ أَبْرَدْتَ عَلَيْهِ جِلْدَهُ».
          وفيه دلالةٌ لما ذهبَ إليه أبو حنيفة من أنَّ هذا كان وَعدًا لا كفالة حقيقيَّة، فإنَّها تقتضي البراءة بالكليَّة.
          وَقد أجمع المسلمون على أنَّ قضاء الدَّين يسقط من ذمَّةِ الميِّت، وَلو كان من أجنبي، وَمن غير تركته.
          وَوَقَعَ نحو هذه القصَّة لعلي كرَّم الله وَجهه، فروى الدَّارقطني من حديثه: أنَّه صلعم أُتي بجنازة ليُصَلِّي عليها، فلمَّا قام ليكبِّر سأل: «هَلْ عَلَيْهِ دَيْنٌ ؟» فقالوا: ديناران، فعدل عنه، فقال عَلِيٌّ: هما عليَّ يا رسول الله، وَهو بريءٌ منهما، فصلَّى عليه، ثم قال لعليٍّ: «جَزَاكَ اللهُ خَيْرًا، وَفَكَّ اللهُ رِهَانَكَ كَمَا فَكَكْتَ رِهَانَ أَخِيكَ».
          قال الخطَّابي: فيه أنَّ ضمان الدَّين(1) عن الميِّت مبرئه إذا كان مَعلومًا، سواء خلَّفَ الميت وَفاءً أو لم يُخَلِّف.
          وقال ابن بطَّال: ذهبَ الجمهورُ إلى صِحَّة هذه الكفالة، وَلا رجوع له في مَال الميِّت. وَعن مَالكٍ: له أن يرجع إن قال: إنما ضمنت لأرجع، فإذا لم يكن للميت مالٌ وَعَلِمَ الضَّامن بذلك فلا رجوع له. وَعن أبي حنيفة: إن ترك الميت وَفاءً جَاز الضَّمانُ بقدر مَا ترك، وَإن لم يترك وَفاءً لم يصح ذلك، انتهى كلامه، وَظَهرَ مَرامه في أحسَنِ عبارةٍ وَأيمن إشارة، بخلاف مَا قال البيضَاوي: الحديث حجَّةٌ على أبي حنيفة، حيث قال: لا يصحُّ الضمان عن الميت إذا لم يترك الوفاء.
          وقد تصدَّى لجوابه العلَّامة الشُّمُني في ((شرح النقاية مختصر الوقاية))، حيث قال: تمسَّك به أبو يوسف وَمحمَّد وَمَالك وَالشَّافعي وَأحمد؛ أنَّه يصحُّ الكفالة عن ميت لم يترك وَفاءً، فإنَّه لو لم يصحَّ لما صَلَّى عليْهِ، وَقال أبو حنيفة: لا تصحُّ الكفالة عن ميِّتٍ مُفلس لأنها كفالة بدين سَاقطٍ وَهي بَاطلةٌ، وَالحديث يحتمل الإقرار عن كفالة سَابقة، وَيحتمل الوعد بالأداء عنه، وَكان امتناعه من الصلاة ليُظهر طريق قضاء دينه، فلمَّا ظهر بالوعد صَلَّى عليه، انتهى.
          ويُؤيده مَا قال القَسْطلانيُّ منْ أنَّ صَلاته صلعم وَإن كان الدَّينُ باقيًا في ذِمَّةِ الميت، لكن صَاحبَ الحق عاد إلى الرَّجاء بعد اليأس، وَاطمأنَّ بأن دَينه صار في مأمنٍ، فخفَّ سَخطه وَقربَ من الرضا.
          (أخرجه) أي البخاري (في / كتَاب الحَوالة في باب) بالضمِّ على الحكاية، وَبالجرِّ على الإعرابِ، وَفي نُسخة بتنوينهما، (إذا أحال) أي أحد من غير الورثة، (دين الميِّت على رَجُلٍ) أي معينٍ مَليءٍ (جازَ) أي جَازت الإحالة أو الحوالة.
          وهذا الحديثُ ذكره البُخاري في باب الدَّين، وَلفظه: عن أبي هريرة أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلعم كَانَ يُؤْتَى بِالرَّجُلِ المُتَوَفَّى عَلَيْهِ الدَّيْنُ، فَيَسْأَلُ: «هَلْ تَرَكَ لِدَيْنِهِ قَضَاءً» فَإِنْ حُدِّثَ أنَّه تَرَكَ لدينه وَفَاءً صَلَّى، وَإِلَّا قَالَ لِلْمُسْلِمِينَ: «صَلُّوا عَلَى صَاحِبِكُمْ» فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الفُتُوحَ، قَالَ: «أَنَا أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، فَمَنْ تُوُفِّيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ فَتَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ، وَمَنْ تَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ».
          وقد لخَّص القَسطلاني كلام العَسقلاني فيما يتعلَّق بهذا الحديث، فقال: وَاستنبط منه التَّحريض على قضَاء دين الإنسَان في حياته، وَالتَّوصُّل إلى البراءة منه وَلو بعدَ ممَاته، وَلو لم يَكن أَمر الدِّين شديدًا في أمرِ الدَّين لما ترك ╕ الصَّلاةَ على المديون.
          وهل كانت صَلاته علَى المديون حَرامًا أو جَائزة ؟ وَجهان، قال النَّووي: الصَّوابُ الجزم بجوازهَا مع وَجود الضامن كما في حديث مُسلم.
          أقول: وَالأظهرُ أنَّ امتناعَهُ كان بطريق الجواز، بدليل تعليل مَا تقدَّم، مع أنَّ ثُبوت الحُرمة لا بدَّ له من أحَد الأدلَّة.
          هذا وَفي حديث ابن عبَّاس عند الحازميِّ أنَّ النَّبِيَّ صلعم لَمَّا امْتَنَعَ مِنَ الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ، جَاءَ جِبْرِيلُ فَقَالَ «إِنَّمَا المَظالِمُ فِي الدُّيُونِ الَّتِي كَانَتْ فِي الْبَغْيِ وَالْإِسْرَافِ، فَأَمَّا الْمُتَعَفِّفُ ذُو الْعِيَالِ فَأَنَا ضَامِنٌ لَهُ أُؤَدِّي عَنْهُ» فَصَلَّى عَلَيْهِ النَّبِيُّ صلعم وَقَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: «مَنْ تَرَكَ ضَيَاعًا» الحديث، انتهى.
          وفي رواية: «مَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَلْيَأْتِنِي» وَالضَّياع _بفتح المعجمة بعدهَا تحتانية_ قال الخطابي: هو وَصف لمن خلف الميت بلفظ المَصْدر، أي ترك ذوي ضيَاع، أي لا شيء لهمْ.
          قال في ((الفتح)): وَفي صَلاته ◙ على مَن عليْهِ دَين بعدَ فتح الفتوح إشعَارٌ بأنَّه كان يقضيه من مَال المَصالح. وَقيل: بل كان يقضيه من خالص نفسه.
          وهل كان القضاء وَاجبًا عليه أم لا ؟ وَجهان.
          أقول: الأظهر الوجوبُ، إلَّا أنَّه من بيت المال، فقد قال ابن بَطال: قوله: «مَنْ تَرَكَ دَيْنًا فَعَلَيَّ» ناسخ لتركه الصلاة على مَن ماتَ وَعليه دَينٌ، وَقوله: «فَعَلَيَّ قَضَاؤُهُ» أي ممَّا يفيء الله عليه من الغنائم وَالصَّدقات.
          قال: وَهكذا يلزم المتولِّي لأمر المُسلمين أن يفعل لمن مَات وَعليه دينٌ، فإن لم يفعل فالإثم عليه أنَّ كان حقُّ الميت في بيت المال يفي بقدر مَا عليْهِ من الدين، وَإلا فيقسِّطه، وَالله تعالى أعلم.


[1] في المخطوط: ضمان الميت.