تعليقات القاري على ثلاثيات البخاري

حديث سلمة: من يقل علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار

          الحديث الأول
          من الاثنين وَالعشرين في العدد المُكمَّل [خ¦109]
          قول البخاري في مقامه الأمثل: (حَدَّثَنَا المَكِّيُّ) بصيغة الجمع لكونه معه غيره، وَالمعنى: أنشأ لنا خبر أفادنا، المعروف بالمكِّيِّ، وَهو اسم بلفظ النِّسْبَة، وَفي نسخة: مكِّيُّ (ابنُ إِبْرَاهِيْمَ)، أي ابن بِشرٍ بكسر مُوحدة وَإسكان شين مُعْجَمَةٍ وَآخره راء، كذا ضبطه مِيْرَكْ شَاه الشَّارح ☼، فضبطُ شارحٍ _وَهُوَ الشَّيخ حُميد السِّنْدِيُّ_ بفتح الموحدة وَكسر المعجمة آخره راء: ليسَ في محلِّه، بل تصحيف: بِشْرٍ، في قوله ابن حَنْظَلَة بفتح حاء مهملة وَسُكون النُّون بَعْدَها ظاء معجمة ثمَّ لام مفتوحة بعدها تاء ممدودة، التَّميمي _نسبة إلى قبيلة بني تميم_ أبو السَّكن _بفتحتين_ البَلْخي المولد، من قُدماء شيوخ البُخاري، وَقد روى عن سَبعة عشر تابعيًّا، وَهو ثِقةٌ ثبتٌ، روى عنه أحمد بن حنبل، وَعَبد بن حُميد، وَغيرهما من أكابر المحدِّثين، وَروى له بقيَّة أصحَابِ الكُتب السِّتَّة، توفِّي سنة خمس عشرة وَمائتين وَله تسعون سنة.
          (ثَنَا) بالمثلَّثة اختصار حدَّثنا في البناء، أي: ((قال: ثنا)) كما في نسخة، وَالمعنى: قال المكِّي: حَدَّثَنَا (يَزِيْدُ بنُ أَبي عُبَيْدٍ) بالتَّصغير، وَفي نُسخة: يزيد هوَ ابن عُبَيد، وَهوَ السُّلمي منسوب إلى قبيلة بني أسلم بالولاء؛ لأنَّه مولى سَلَمة بن الأَكْوع شيخه، وَهو من أَوساط التَّابعين، جليل الرُّتبة، وَذو الفضائل الجمَّة، روَى له الجماعة، مَات سنة بضع وَأربعين وَمائة.
          (عَنْ سَلَمَةَ) بفتحتين، وَالتَّقدير: حدَّثنا يزيد بن أبي عُبَيد حال كونه راويًا عن سَلَمة، وَروايته بعن محمولة(1) على السَّماع بشرط المُعاصرة وَاللِّقاء، وَهُو يتحقق ههُنا، (هو ابْنُ الأَكْوَعِ) وَفي نُسخة: عن سلمة بن الأكوع. وَالظَّاهر أنَّه لا وَاسطَة بين سلمة وَالأكوع، وَقد جزم مِيْرَكْ(2) شاه بأنَّه سلمة بن عَمْرو بن الأكوع، لكن ذُكر في ((الإصَابة)) بلفظ: قيل: هو ابن عمرو بن الأكوع، وَقيل: اسم أبيه وَهب، وَقيل غير ذلك؛ فعلى هذا يكون سَلمة منسوبًا في الحديث إلى جدِّه، بفتح الهمزة وَالواو، لقب له، وَمعناه: المعرج الكوع _وَهو طرف الزِّند الذي يلي الإبهَام_ وَاسمه سنان بن عبد الله، صحابي جليل مشهور، شهد بيعة الرُّضْوَان مرتين كما سيأتي في الحديث الحادي عشر. وَقيل: بايع يومئذ ثلاث مرَّات؛ في أوَّل الناس وَأوسطهم وَآخرهم، وَقد شهد ما بعدها من المشاهد الفاضلة وَالغزوات الكاملة، وَكان شجاعًا، راسيًا، شديد العَدْو على العَدُوِّ، يَسْبِقُ الفَرَسَ في شدَّة الجري. /
          قال الكَرْمَانِي: وَيُقال: إنَّه كلَّمهُ الذئبُ، وَكان سَبَبَ إسلامه، وَلهُ فضائل جمَّة بكشف الغمَّة، روى عن النَّبيِّ صلعم فسلم سَبعة وَسَبعين حديثًا، روى له الجماعة.
          وكان يسكنُ المدينة، فلما قُتِلَ عثمان ☺ خرج إلى الرَّبذة، فسَكنها وَتزوَّج بها، وَولد له بهَا، وَحين كان قبل وَفاته بليَال عَاد إلى المدينة؛ لأنَّها دار هجرته، وَلأنَّ الموت بهَا أفضل بالاتِّفاق، حتى من الموت بمكة، مع أنَّ الجمهُور على أفضليَّة الإقامة بمكَّة المكرَّمة. فمات بالمدينة سنة أربع وَسبعين منَ الهجرة.
          (قَالَ): استئناف لبيان روَاية سَلمةَ، وَقيل: ينبغي للقارئ أن يقول: أنَّه قال.
          (سَمِعْتُ النَّبيَّ صلعم يقول)، قيل: السَّماع لا يتعلَّق إلَّا بالقول، فالكلام محمول على أنَّ كلمة ((من)) محذوفة، وَالتَّقدير: سَمعت منه يقول هَذا القول، وَالأظهر أنَّه محمول على حَذف المضاف، أي سمعت قوله، وَحينئذٍ ((يَقول)) بيان له على منوال الحال، كما في قوله تعالى: {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيْمَانِ} [آل عمران:193] ، وَعَدل عَن الماضي إلى المضارع لاستحضار حال صُورة القول للحاضرين، كأنَّه يريهم أنَّه الآن قائل بذلكَ القال. وَقد أبعد مَن قال: ((سَمعت)) يتعدَّى إلى مفعُولين في نحو هذا المثال.
          (مَنْ يَقُلْ عَلَيَّ(3) )، (من) شرطيَّة، لا أنَّها موصولة متضمنة معنى الشَّرط كما قال حميد، فإنَّه ليس بسديد، ثمَّ القول ضُمِّنَ معنى الافتراء، وَلذا استعمل بـــ ((علي))، أي: افترى وَكذبَ (عليَّ ما لم أقل) أي شيئًا لم أقله، وَهو الَّذي لم أقله. وَحَذْفُ العائدِ شائع في كلامهم، وَشائع في مرامهم، تأكيد لما قبله، وَخُصَّ بالقول؛ فإنَّ استعماله أكثر، وَإلا فهو شاملٌ للكذب عليه في فعله أو تقريره، أو ذكر شمائله وَتحريره، فتدبَّر.
          قال العَسْقَلَانِيُّ: وَمقتضى هذا الحديث استواء تحريم الكذب عليه في كلِّ حال، سواء في اليقظة أو النَّوم.
          ثمَّ قيل: في حديث مُسلم دليل على أنَّه لا يجوز روَاية الحديث إلَّا بعد أن يَعلم أنَّه من رسول الله صلعم ، فإذا حدَّثه بغير علم وَلو كان الحديث في نفس الأمر صحيحًا فقد أخطأ في نقله؛ لعدم علمه، فيكون أحد الكاذبين، وَيؤيده حديث: «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا» _وَفي رواية: «إِثْمًا»_ أنَّ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ».
          وقد تعلق بظاهر هذا المبنى مَن منع الرِّوَاية بالمعنى، لكن الجمهُور على الجواز بالشرط المشهور، وَأَجَابُوا عن ذلك بأن المراد النَّهي عن الإتيان بلفظ يوجب تغيُّر(4) الحكم هنالك، ثمَّ لا مفهوم لقوله: «عليَّ» لأنه لا يتصوَّر أن تكذب له؛ لنهيه ◙ عن مطلق الكذب في الكلام، وَقد اغترَّ قوم من الجهلة بهذا التركيب، فوضعوا أحاديث في الترغيب وَالترهيب، وَقالوا: نحن لم نكذب عليه، بل فعلنا ذلك لتأييد شريعته، حيث نفعُه راجع إليه، وَلم يدروا أنَّ الكذب في نقل كلامه يقتضي الكذب على الله في أحكامه.
          (فليتبوَّأ) بسُكون اللام هو المشهور في الرِّواية وَالمعتبر في الدِّراية، أي فليهيِّئ (مقْعَدَهُ) أي مَسكنه (من النَّار) يحتمل أنَّ يكون (مِنْ) بيانيَّة أو ابتدائيَّة أو تبعيضيَّة، وَصيغة «فليتبوَّأ» أمر وَمَعناه خبر، فالمعنى: أنَّ الله تبوَّأ مقعده منَ النَّار. وَيؤيِّده ما وَرد عند أحمد بسَند صحيح عنْ ابن عمر بلفظ: «بُنِيَ لَهُ بَيْتٌ فِي النَّارِ» إذ معناه دعاء: أي بَوَّأه الله. وَهُوَ بعيد بحَسَب مقتضاه. وَقال الطَّيبي: أمر تهكُّم وَتغليظ هنالك، إذ لو قيل: / «كان مقعده»، لم يكن كذلك.
          وَفيه الإيماء إلى مَعْنى القصد في الذَّنب وَفق الجزاء، أي كما أنَّه قصد في الكذب التَّعمُّد فليقصد في جزائه التَّبَوُّء. وَقيل: الأمر على حقيقته، وَالمعنى: من كذبَ فليأمر نفسه بالتبوّء لعقوبته.
          وَحاصل المعنى: ((فليتخذ لنفسه منزلًا منهَا)).
          وَقوله: «مقعده»: مفعُول به، وَحينئذٍ يكون التبوُّء مُستعملًا في جزء مَعناه مجرَّدًا عن مَبناه.
          وَاختلفوا في أنَّ هذا الحكم عام أو خاص بالكذب في الدِّين، كتحريم حَلال وَعكسه، وَالأصحُّ أنَّه عَامٌّ يشمله وَغيره.
          ثم اعلم أنَّه فاحشة عظيمة وَكبيرة جسيمة، لكن لا يكفر بها إلا مُستحلُّها، وَحكى إمام الحرمين عن وَالده الجويني أنَّه يكفر، وَيُراق دَمه. وَلَعَلَّ وَجهه أنَّه يَلزم من كذبه على رسول الله صلعم كذبه على الله. وَ{مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى الله} [الزمر:32] .
          ثم إنَّ من كَذَبَ في حديث وَاحد فَسَقَ وَرُدَّت رواياته كلها، وَبَطَل الاحتجاج بجميعها، فلو تاب وَحسُنت توبته؛ فعند الإمام أحمد وَجماعة لا تُقبل روايته أبدًا، وَهُوَ موافق لمذهبنا قياسًا على القَذَفة، حيث قال تعالى: {لَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور:4] وَالاستثناء منَ الحكم الأضر وَهو كونهم فسقة إذا حَسنت لهم التوبة، وَأمَّا عدم قبول الشهادة فمؤيَّدة لقيام تهمة مؤكَّدة، وَلعلَّ الحكمة في ذلك أنَّ حُسن التوبة أمر باطني لا يطَّلع عليه أحد، فهو بتوبته صَالَحَ بينه وَبَين الحق، وَمحتمل في حقِّ الخلق، وَبهذا التَّقرير يندفع قول النَّووي: هذا مخالف للقواعد، وَالمختار القطع بصحَّة توبته وَقبول روايته بَعدهَا.
          ولا فرق بين ما كان في الأحكام وَمَا لا حكم فيه، كالتَّرغيب وَالتَّرهيب وَالموعظة في شرائع الإسلام، فكلُّه حَرام، من أكبر الكبائر، خلافًا للكرَّاميَّة حيث جوَّزوا وَضع الحديث فيما لا حكم فيه، كذا نقلوا عنهم.
          وَالظَّاهر أنَّهم فرَّقوا بين المسألتين؛ ففي الأُولى حكموا بكونها من الكبائر، وَفي الثانية عدُّوها من الصَّغائر؛ إذ لا شكَّ في تفاوت مَراتب القبح لأنواع الكذب، وَإلَّا فهم طائفة من الصُّوفيَّة المبَالغين في التنزُّه عن الأخلاق الدنيَّة في أمر الدِّين كما يُفهم من كلام الغزالي في ((منهاج العابدين)).
          فإن قيل: الكذب من حيث هو معصية، فكلُّ كاذب عاصٍ، وَكلُّ عاصٍ يلج النار؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن:23] ، فما فائدة لفظة: «عليَّ» في الشَّرط، وَنتيجته: «فليتبوَّأ» في الجزاء؟
          فالجواب: أنَّه لا شك أنَّ الكذب عليه صلعم أشدُّ من الكذب على غيره، وَأقبح في حكمه؛ فلذا خصَّ بذكره، فقد قال محيي السُّنَّة: الكذب عليه ◙ أعظم أنواع الكذب بعد كذب الكافر على الله، وَيؤيِّده ما وَرد في بعض طرق الحديث _كما أخرجه البخاري في كتاب الجنائز من ((صحيحه)) _ بلفظ: «إنَّ كَذِبًا عَلَيَّ لَيْسَ كَكَذِبٍ عَلَى أَحَدِكُم، مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأ مِقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
          ولا يبعد أن يقال: الكذبُ عليه كبيرة، وَعلى غيره صغيرة، وَقد تُكفَّر الصَّغائر عند اجتناب الكبائر، فالمراد: أنَّ الكذب عليه يجعل النَّار مَسكنًا لفاعله البتَّة، بخلاف الكذب على غيره فإنَّه تحت المشيئة وَقابل للعفو وَالشَّفاعة؛ فيكون مَآل الحال إلى أنَّ الأمر للتَّأكيد في الوعيد، وَللتَّشديد في التهديد. وَيؤيِّده مَا روَاه الترمذي عن ابن عمر مَرفوعًا: «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا لِغَيْرِ الله / فَلْيَتَبَوَّأ مِقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
          ثم يستفاد من هذا: تحريم روَاية الحديث الموضوع على مَن عرف كونه مَوْضُوَعًا، أو غلبَ على ظنِّه وَضعه، وَلذا قال العلماء: ينبغي لمن أراد رواية حديث أن ينظر؛ فإن كان صحيحًا أو حَسَنًا قال: قال رسول الله صلعم كذا، أو فعل كذا(5) ، وَنحو ذلك من صيغ الجزم، وَإن كان ضعيفًا فلا يقل: قال، وَنحوه، بل يقول: بلغنا، أو روي عنه هذا، وجَاء عَنْه كذا، وَمَا أشبهَه.
          (أَخْرَجَهُ) أي رَوى (البخاري) هذا الحديث بإسناده المذكور (في كتاب العلم)، أي من «صحيحه» في (بَابِ إِثْمِ مَنْ كَذَبَ عَلَى النَّبِي صلعم).
          وحكى الإمام أبو بكر الصَّيرفي أنَّ هذا الحديث مرويٌّ عن أكثر من ستِّين صحَابيًا مَرفوعًا، وَفيهم العشرة المبشَّرة. قال: وَلا يُعرف حَديث اجتمع فيه على روايته العشرة إلَّا هذا. وَقيل: إنَّه رُوي عن مائتين من الصَّحابة.
          قال ابن الصَّلاح: ليسَ في الأحاديث مَا في مرتبته منَ التَّواتر المعنويِّ _لا اللَّفظيِّ_ لاختلاف الرِّوَاية في المبنى معَ الاشتراك في المعنى، فالقدر المشترك الحاصلُ من جميع الألفاظ متواتر كما حقَّقه الحُفَّاظ، حيث جاء في روَاية: «مَنْ تَعَمَّدَ عَلَيَّ كَذِبًا»، وَفي أخرى: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا»، وَفي أخرى: «لَا تَكْذِبُوا عَلَيَّ».
          وَأصحُّ الألفاظ: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأ مِقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ»؛ فقد قال شيخ مشايخنا الجلال السُّيوطي ☼: رواه أحمد، وَالشَّيخان، وَالتِّرمذي، وَالنَّسائي، وَابن ماجه عن أنس. وَأحمد، وَالبخاري، وَأبو دَاود، وَالنَّسَائي، وَابن ماجه عن الزُّبير. وَمسلم عن أبي هريرة. وَالترمذي عن علي. وَأحمد وَابن مَاجه عَن جَابر، وَعن أبي سَعيد. وَالتِّرمذي، وَابن مَاجه عن ابن مَسعُود. وَأحمد، وَالحاكم عن خالد بن عرفطة، وَعن زيد بن أرقم. وَأحمد عن سَلمة بن الأكوع، وَعن عقبة بن عَامر، وَعن معَاوية بن أبي سُفيان. وَالطَّبراني عن بضعةٍ وَعشرين صحابيًّا. وَالدَّارقطني عن أربعة من الصَّحابة. وَالخطيب عن سَلمان وَأبي أمامة. وَابن عسَاكر عن ثلاثة. وَابن صَاعد في طرقه عن أبي بكر، وَعمر، وَجمع آخر. وَابن الفرات في ((جزئه)) عن عثمان. وَالبَزَّار عن سعيد بن زيد. وَابن عدي عن جماعة. وَأبو نُعيم في ((المعرفة)) عن جمع. وَالحاكم في ((المدخل)) عن عفَّان بن حبيب. وَرواه أحمد عن عمر، وَلفظه: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فَهُوَ فِي النَّارِ»، وَرَواه أيضًا عن علي: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ فِي حلمه(6) مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأ مِقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» انتهى.
          ولا يخفى أنَّ ما نازع بعضهم في كون هذا الحديث متواترًا في المبنى _بناءً على اشتراط التَّواتر أنَّ يستوي طرفاه وَمَا بينَهما في الكثرة، وَهي ليسَت موجودة في كل طريق بمفردها_ مدفوعٌ بما قرَّرناه بأن الصحيح أنَّ هذا الحديث متواتر بحسب المعنى لا من طريق المبنى.
          على أنَّه قد قال جمع بأنَّه متواتر حتى في اللَّفظ؛ فإنَّ المراد بإطلاق كونه متواترًا روَاية جمع عن جمع من ابتدائه في كل عَصر إلى انتهائه، وَهذا كافٍ في إفادة العلم وَابتنائه. على أنَّ طرق أنس وَحدهَا على ما قدَّمناه روَاهَا جماعة كثيرة بأسَانيد شهيرة، وَحديث علي روَاه عنه ستة عشر من مشاهير التَّابعين وَثقاتهم، وَكذا حديث ابن مَسْعود، وَأبي هريرة، وَعبد الله بن عمرو، وَعلى مَا حقَّقه مِيْرَكْ شاه ☼ ، فلو قيل في كلٍّ إنَّه متواتر عن صحَابِيَّهِ لكان صحيحًا، فإنَّ العدد المعيَّن لا يُشترط في التَّواتر على الصَّحيح، / بلْ ما أفاد العلم به كان كافيًا في مقام التَّوضيح.
          ثمَّ اعلمْ أنَّه قد وَرد لهذا الحديث سَببٌ، وَهُوَ ما أخرجه أبُو القاسِم البغوي من طريق صَالح بن حيَّان عن ابن أبي بريدة عن أبيه قال: جَاء رجل من جانب المدينة فنزل في خارجهَا على قوم، فقال: إنَّ رسول الله صلعم أمرني أنَّ أحكم فيكم برأيي، وَفي أموَالكم، وَفي كذا وَكذا. وَكان خطبَ امرأةً منهم في الجاهلية؛ فأبَوا أنَّ يزوِّجوه، ثُمَّ ذَهَبَ حَتَّى نَزَلَ عَلَى المَرْأَةِ؛ فَبَعَثَ القَوْمَ إِلَى رَسُوْلِ الله صلعم ، فقال: «كَذَبَ عَدُوُّ الله»، ثُّمَّ أرسَلَ رَسُوْلًا فقالَ له: «إنَّ وَجَدَّتَهُ حَيًّا فَاقْتُلُوه، وَإِنْ وَجَدَّتَهُ [مَيْتًا](7) فَحَرِّقْهُ بِالنَّارِ»، فَوَجَدَهُ قَدْ لُدِغَ فَمَاتَ؛ فَحَرَّقَهُ بِالنَّارِ، فعند ذلك قال رسول الله صلعم: «مَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأ مِقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ».
          ثمَّ هذا الحديثُ أوَّلُ ثُلاثِيٍّ وَقع في البخاري، وَلَيْسَ فيه أعلى من الثُّلاثيَّات كما نصَّ عليه في ((فتح الباري)).


[1] في الأصل تصحيفًا: (مجهولة).
[2] في الأصل تصحيفًا: (بترك).
[3] سقطت (علي) من المطبوع ص177.
[4] في الأصل: (بغير).
[5] سقطت لفظة كذا الثانية من المطبوع ص182.
[6] هكذا في المخطوط، ومشى عليها في المطبوع، ولعلَّ الصواب: (كلمةٍ).
[7] زيادة من مصادر التخريج لا بدَّ منها.