تعليقات القاري على ثلاثيات البخاري

حديث بسر: كان في عنفقته شعرات بيض

          الثَّالث عشر: [خ¦3546]
          (قال البُخَارِيُ: حَدَّثَنَا عِصَامُ بنُ خَالِدٍ) بكسر العين المهملة، أبو إسحاق الحضرمي الحِمصي، صدوق. وقال النَّسائيُّ: ليس به بأس. وَذكرَ ابن حِبَّان في كتاب ((الثِّقات)): وَهو من صغار الأتباع، يروي عنه البخاري، وَليسَ لَه رواية في باقي الكتب السِّتة.
          قال في ((التَّقريب)): مات سنة أربع عشرة وَمائتين على الصَّحيح، وَهذا طريقٌ ثالث للبُخاري في الثُّلاثيَّات، وَجميع رُوَاته لم يتقدَّم لهم ذكر.
          (ثَنَا) أي قال عصام: حدَّثنا (حَرِيْزُ بنُ عُثمان) بفتح الحاء المهملة وَكسر الراء وَآخره زاي، وَأمَّا ما في بعض النُّسخ بالجيم وَالرَّاءين، وَفي بعضها بضمِّ المُهْملة وَفتح الراء وَفي آخره زاي، فَمُصَحَّفَان، وَهوَ أي من صغار التَّابعين، يقالُ له: أبو عثمان الرَّحبي، بفتحتين، بطنٌ مِن حِمير، قبيلة من اليَمن، قالَ في ((التَّقريب)): ثقةٌ ثبتٌ، مَات سنة ثلاث وَستين وَمَائة، وَهُوَ ابن ثلاث وَثمانين سنة.
          وَقالَ في ((جَامِع الأصُول)): وَكان فيه تحاملٌ على عليِّ بن أبي طالب ☺.
          قالَ الشَّارح: رُمي بالنَّصب، أي بأنه خَارِجِيٌّ، وَلِذَا لم يُخَرِّجْ لَهُ مُسلم شيئًا في ((صحيحه))، وَقيلَ: تابَ منه في الآخر، وَلعَلَّ البُخاريَّ صحَّ عنده توبته، وَلِذَا خرَّجَ لهُ هذا الحديث حِرصًا على طلب علوِّ السَّند، وَليسَ له في ((صحيحه)) سوى هذا الحديث، وَحديث آخر فقط.
          وَروى له أصحَابُ السُّنن الأربعة، وَالله العَاصم، انتهى.
          وَلا يخفى أنَّ المحدثين يروون عن أهل البدعة مِنَ الخَوارج وَالرَّافضة إذا كانوا من أهل الضَّبط وَالدِّيانة، كما هُو مقرَّرٌ في محله من علم الأصُول، فلا يحتاج إلى تقييد روَاية البخاري بكونها بعد صحَّة التَّوبة.
          (أنَّه) أي حَريزًا (سَأَلَ عَبْدَ اللهِ بنَ بُسْرٍ) بضم الموحدة وَسكون السين المهمَلة وَآخره راء، كما ذكره النَّووي في ((الأذكار))، ابن أبي بُسر، صحابيٌّ صغيرٌ لهُ أَحاديث، / رَوَى لَهُ الجمَاعَةُ في كُتُبِهِم، وَلأبيه بُسْرٌ صُحْبَةٌ أيضًا، قيل: وَلأمِّه وَلأخيه عطيَّة وَلأخته [الصماء](1) صُحبة أيضًا، وَله ذِكرٌ في مُسلم بلا روَاية، وَروى له النَّسائيُّ حَديثًا وَاحدًا، مات عبد الله سَنة ثمان وَثمانين، وَله مائة سنة، وَهوَ آخرُ من مات بالشَّام من الصَّحابة على قول الصَّحيح، وَيُقالُ له: أبو صفوان السُّلمي المازني الشامي، وَقيل: نزل بالشَّام وَمات بحمص فجأة وَهو يتوضَّأ، وَكان صلَّى إلى القبلتين فيما قيل.
          (صَاحَبَ النَّبي صلعم) لعلَّ تخصيص ذكره بهذه الصِّفة لقلَّة وَرود مروياته في الصحيح، فعرَّفه بها لئلَّا يشتبه أمره على القارئ وَالسَّامع، أو: عبد الله بن بسر متعدِّد في الصَّحابة وَالتَّابعين، فصرَّح به لئلا يُظنَّ أنَّ الحديثَ مرسلٌ، وَالله أعلم.
          قال، أي حَريز: (أَرَأَيْتَ النَّبي صلعم كَانَ شَيْخًا) بنصبِ النَّبيِّ، وَيجوزُ رفعهُ، حيث قال في ((الفتح)): يحتمل أن يكون: أرأيت بمعنى أَخْبِرني، وَالنَّبيُ بالرَّفع على أنَّه اسمُ كان، وَالتقدير: أخبرني أكان النَّبي صلعم شَيخًا ؟ انتهى.
          وَبُعده وَتكلُّفه لا يخفى.
          ثمَّ قال: وَيُحتمل أنَّ يَكون ((أرأيت)) استفهامًا منه هل رأى النَّبيَّ صلعم ، وَيَكونُ النصب على المفعوليَّة، وَقوله: كان شيخًا استفهام ثانٍ حُذفت منه أداة الاستفهام. وَيؤيِّد هَذا الثَّاني: روَاية الإسمَاعيلي من وَجه آخر عن حَريز بن عثمان قال: رَأيت عبد الله بن بُسر صَاحب النَّبي صلعم بحمص وَالناس يَسألونه، فدنوت منه وَأنا غُلام، فقلت: أنت رَأيتَ رسول الله صلعم ؟ قال: نعم، قلت: شيخٌ كان رسول الله صلعم أم شابٌّ ؟ قال: فتبسَّم، وَفي روَاية لَهُ: فقلت: كان النبي صلعم صبغ ؟ قال: يا ابن أخي، لم يَبلغ ذلكَ.
          (قَالَ: ) أي ابن بُسر: (كَانَ فِي عَنْفَقَتِهِ) بفتح العين وَسكون النون بعدهَا فاءٌ وَقاف مفتوحتين، وَهي مَا بين الذقن وَالشَّفة السُّفلى، سواءٌ كان عليها شعر أم لا، وَقد يُطلق على الشَّعر النَّابت عليها أيضًا. وَفي ((النِّهاية)): قيل: هي الشَّعر الذي في الشَّفَّة السُّفْلى، (شَعَرَاتٌ بِيْضٌ) في [إتيانِهِ] بصيغة جمع القلَّة إيماء إلى أنَّه لم يَكن زائدًا على العشرة.
          (أَخْرَجَهُ) أيْ البُخاري (في بَابِ صِفَةِ النَّبيِّ صلعم) أي في نعته الشامل لشعره وَغيره. قال العَسقلاني في شرح حديث قتادة: سَأَلْتُ أَنَسًا هَلْ خَضَّبَ النَّبي صلعم ؟ قال: أنَّما كَانَ شَيٌّء في صدْغَيْهِ. وَهذا مغايرٌ للحديثِ السَّابق، أنَّ الشَّعر الأبيض كانَ في عنفقته.
          وَوجهُ الجَّمعِ ما وَقع عند مسلم عن قتادة عن أنس قال: «وَلَمْ يَخْضِبْ رَسُولُ اللَّهِ صلعم ، إِنَّمَا كَانَ الْبَيَاضُ فِي عَنْفَقَتِهِ وَفِي الصُّدْغَيْنِ وَفِي الرَّأْسِ نُبَذٌ». أي متفرِّقٌ.
          وَعُرف من مجموع ذلك أنَّ الذي شابَ في عَنْفَقَتِهِ أكثرُ مما شابَ من غيرها، وَمرادُ أنس أنَّه لم يَكن في شعره مَا يحتاجُ إلى الخضاب، وَالله أَعلم بالصَّواب.
          وَأمَّا ما روَاه الحاكم وَأصحاب ((السُّنن)) من حديث [أبو] رِمْثَةَ قال: «أَتَيْتُ النَّبِيَّ صلعم وَعَلَيْهِ بُرْدَانِ أَخْضَرَانِ، وَلَهُ شَعْرٌ قَدْ عَلَاهُ الشَّيْبُ، وَشَيْبُهُ أَحْمَرُ مَخْضُوبٌ بِالْحِنَّاءِ»، فهو موافقٌ لقول ابن عمر: رَأَيْتُ رَسُوْلَ اللهِ صلعم يَخْضِبُ بِالحمرة(2) . وَالجمعُ بينه وَبين حَديث أنس أن يُحمل نفي أنس على الشَّيب حتى يحتاج إلى خضابه، وَلم يتفق أنَّه رَأهُ وَهوَ / يخضبُ، وَيُحمل حديث من أثبتَ الخضابَ على أنَّه فعله لإرادة بَيان الجواز، وَلم يواظب عليه، انتهى.
          ولا يخفى أنَّ قوله: وَلم يتَّفق لأنس أنَّه رآه مخضوبًا معَ أنَّه خادم له ملازم في غاية البعد، فالأولى أن يُقال: لعل أنسًا أراد بنفيِّ الخضاب أكثر أحواله ◙، وَلا ينافي ما وَقع نادرًا منه في بعض الأيَّام.
          على أنَّ بعضهم قال: لما كان في بعض شعره ◙ حُمرة أو صُفرة وَهما مقدمتان للبياض، كان يظنُّ الظَّانُّ أنَّه من استعمال الخضاب، وَالله أعلم بالصواب.
          وأمَّا مَا أخرجه الحاكم من حديث عائشة قالت: «مَا شَانَهُ اللهُ بِالبَيَاضِ»، فمحمُولٌ على أنَّ تِلك الشَّعرَات البيض لم يتغير بها شيء من حُسنه صلعم.
          فإنْ قُلت: قد وَرد أنَّه صلعم قال: « [مَنْ شَابَ] شَيْبَةً فِي الْإِسْلَامِ كَانَتْ لَهُ نُورًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
          وَوردَ أيضًا: أنَّ إبراهيم ◙ أوَّل من شابَ، فقال: يا رب ما هذا ؟ قال: هذا وَقارٌ، قال: زِدْنِي وَقارًا يَا رب.
          فما الحكمةُ في تقليل البَياض بالنسبة إليه صلعم ؟
          قُلتُ: لما كان صلعم مولعًا بحبِّ النساء وَهنَّ يكرهن الشَّيب كما يُشعر به حديث عائشة المتقدِّم، صَانه الله عمَّا شانه لديهنَّ؛ لئلَّا يكون مَكروهًا عليهنَّ.


[1] في المخطوط: الضمان، وهو خطأ، والتصويب من كتب التراجم.
[2] هكذا في الأصل، والذي في البخاري: بالصفرة.